samedi 6 novembre 2010

بعض معاني غزل ابن زيدون

الأستاذ عيبد الوهاب الشتيوي
معهد الحبيب ثامر بصفاقس
الجمهورية التونسية
شعارنا: "لا تقل كما قيل واطلع مكان الشمسّ.
5 ـ المقابلة بين الماضي و الحاضر:
إنّ المقابلة بين زمني الماضي والحاضر ليست بدورها جديدة في الشعر العربي، بل هي ظاهرة مركزية تطرّق إليها كلّ شعراء الغزل منذ القديم مثلما تطرّقوا إلى المقابلة بين العاشقين، لأنّ قدر العشّاق ـ كما يصوّرون في قصائدهم ـ أنْ تنقطع بهم السّبل، فتتصدّع علاقاتهم وينأى عنهم الأحبّة إمّا إراديًّا وإمّا غير إرادي، فيقول ريجيس بلاشير: "ويبدو أنّ استحضار الأيّام السّعيدة قد احتلّ مكانًا فسيحًا". (ص413). ولعلّ هذه المقابلة تتجلّى كأحسن ما يكون في القسم الطّلليّ حيث يقف الشّاعر على المكان الذي احتضن علاقته العاطفيّة بالمرأة قديمًا و قسم النّسيب حيث أنّه بعد أن يتغنّى بأوصاف حبيبته النّموذجيّة ينصرف إلى ذكر الأيّام الجميلة الماضية التي قضّياها معًا في نبرة كلّها أسفٍ و حنينٍ وهو ما نعبّر عنه عادةً بقسم الذّكرى، ثمّ يعود لمتابعة الرّحلة مع الحياة في الحاضر بلا حبيبة، ولكن لابن زيدون إبداعه الخاص وطرافته المتميّزة في هذا الإطار، وهذه المقابلة متأتّية في نظرنا من تجربته السّياسيّة والعاطفيّة ونكباته المتعدّدة، فسياسيًّا تدرّج في سلّم المناصب حتى صار صاحب وزارتين لدى بني الجهور، ونعم بالحياة الراقية المترفة معهم وقبل ذلك أيضًا لأنّ عائلته من الطّبقة الأرستقراطيّة التي لها مكانتها مهمّة في المجتمع الأندلسيّ وفي عاصمة الخلافة الأمويّة قرطبة بالذّات وكان أبوه مقرّبًا من الحكم و كان جدّه من القضاة المشهورين، لكنّه تدحرج إلى السّجن وصار يعيش مع المهمّشين واللّصوص وساءت أحواله وفقد كلّ مناصبه بل كلّ اعتبار كان يحظى به سابقًا، أمّا عاطفيًّا فقد كان حبيب ولاّدة بنت المستكفي،ـ التي كانت أهمّ علاقة في حياته وشعره على ما يذكر المؤرّخون ـ و نال الوصل منها و غنم اللذّة و السّرور ، و كانت حياته إلى جوارها أيّام نعيم و صفاء، ثمّ انقلب الأمر فخسر قربها و فقد حبّها و حرم وصلها و صار الحاضر مفجعًا مفزعًا أليمًا لا يمكن تحمّله أو تصديقه ، فكانت إذن هذه المقابلة الدّائمة بين الحاضر الجميل السّعيد و الحاضر المؤلم التّعيس ، و إنّ كثرة القصائد المعبّرة عن هذه الثّنائيّة في الدّيوان ـ و هي الغالبةـ لتجعلنا نؤكّد أنّه لم ينعم بوصل حبيبته في الماضي إلاّ لمدّة وجيزة و تثبت لدينا تلك النّظريّة التي لعلّها لم تفارق شاعرًا عربيًّا واحدًا وهي "أنّ الماضي ممتع والحاضر مفجع والمستقبل مفزع".
فيقف ابن زيدون متذكّرًا الماضي واصفًا إيّاه بتوظيف معجم الطّبيعة الأندلسيّة الصّافية و يقول في القصيدة القافيّة ( ص 400 ) :
كان التّجازي بمحض الودّ مذ زمن *** ميدان أنس جرينا فيه أطلاقَـا
و يقول أيضًا مؤكّدًا صفاء هذا الماضي المشرق في النّونيّة ( ص 388 ) :
إذ جانب العيش طلق من تـألّفـنَـا *** ومربع اللّهو صافٍ من تصافينَا
و إذْ هصرنا فنون الوصـل دانـيـةً *** قطافها ، فجنينا مـنـه ما شـيـنَـا
و يصوّر لحظات الوصل و اللّقاءات الغراميّة التي جمعت بينهما في قرطبة و أماكن مختلفة منها مثل " العقيق " ، فيقول:
و أيّام وصلٍ بالعقيق اقتضيته، *** فإلاّ يكنْ ميعاده العيد فالفصْحَا
و لكنّ هذا النّعيم لم يدم طويلاً وسرعان ما زال، وهذه السّعادة أفلت وانقطعت بانقلاب الأحوال عليه وشكِّ الأمير فيه و إيداعه السّجن وإهماله هناك وعدم الاكتراث برسائله الشّعريّة التي يبعث بها إليه مستعطفًا تائبًا طالبًا العفو، وإلى الحبيبة متوسّلاً التّدخّل راجيًا التّوسّط للعفو عنه وهي التي تملك مكانًا لا بأس به في بلاط السّلطة الجهوريّة، فحضر الطّرف الثّاني للمقابلة و هو حاضر الهجر و البعد و النّوى و الغدر والسلوّ، فالحبيبة غدرت واتّخذت خصمه اللّدود حبيبًا، بعد أن أطاعت الرقباء والواشين، وصار الشاعر يعبّر عن حزنه وألمه وتعاسته وعذابه في السّجن بعيدًا عنها، وصار يعيش على الذّكرى الممتعة المؤلمة يجترّها ويلوكها دون أن يدرك منها شيئًا واقعيًّا ملموسًا، وصار يبكي أيّام الوصل الماضية المفقودة ويرسل الخطابات إلى الحبيبة يدعوها فيها إلى تجديد العهد، وزيارته والإشفاق عليه من الوحدة والأسى، ويتوجّع من الحاضر المؤلم، فيقول عن ذلك جودت الرّكابي: "ثمّ يشتدّ على شاعرنا ظلام الهجر والبعاد فإذا به يئنّ في شعره و يستصرخ محبوبته في لحن كلّه ارتجاف وذكرى". ويعبّر عنه ابن زيدون شعرًا في النّونيّة (ص 386)، فيقول:
ألا وقد حان صبح البين صبّحنَا *** حين فقام بنا للحين ناعينَا
و قد نكون و ما يخشى تفرّقـنَا *** فاليوم نحن و ما يرجى تلاقينـَا
و يصف حاله الضمأى إلى وصال الحبيبة قائلاً :
بنتم و بنا فما ابتلت جوانحنَا *** شـوقـًا إلـيـكم و لا جفّت مآقينَا
ثمّ يقارن بين الزّمنين أيْ الماضي والحاضر، فيقول:
أضحى التنائي بديلا من تدانينَا *** ونـاب عـن طـيـب لـقيانا تجافينَا
حالت لفقدكم أيامنا ، فـغـدت *** سودا و كانت بكم بـيـضا ليالينَا
وهذه المقابلة بين الماضي و الحاضر، هي من المكرّر المعاد في شعر ابن زيدون حتّى أنّ الدّارس لعدد من قصائد الدّيوان يمكنه أنْ يتنبّأ بأنّ بقيّة القصائد سائرة على المنوال نفسه، بل إنّ بعض الدّارسين يرون أنّها من خصائص الشّعر الأندلسيّ عامّة وليس شعر ابن زيدون فقط، وممّن ذهب هذا المذهب جودة الرّكابي إذ يقول: "ولعلّ أجمل ما في الغزل الأندلسيّ هو هذه النّغمة المحزنة التي يبكي فيها الشّاعر أيّام سعادته بالقرب من الحبيب و يحنّ إلى أيّامه الآفلة التي قضى الدّهر أن تكون ذكرى لحبّ مقيم". ( ص121 ـ 122). بل إنّ من الدّارسين من يجد أنّ الوقوف على أطلال الماضي العاطفي المشرق، وبكاءه باستمرار والحزن الدّائم المصبوغ على هذا الشّعر من أهمّ أسباب إعجاب القارئ به وخلوده، فيقول أحمد ضيف: "وأقرب عبارته وصولاً إلى القلوب بكاؤه على الماضي، والتّلذّذ بذكره و ما كان فيه من النّعيم .. و لقد كان ينظر إلى أيّامه الماضية فيحنّ إليها حنينًا مؤلمًا ، فإذا قرأت شعره في ذلك رأيت نفسه كأنّك واقف على أطلال سعادته البالية ، فبكى و بكيت معه " . ( عن الرّكابي ، ص 206 ) . و إنّ كثرة هذا النوع من القصائد تجعلنا نتأكّد من أنّ ابن زيدون لم يعش صفاء المودّة مع ولاّدة أو غيرها إلاّ لبرهة من الزّمن سرعان ما انقضت و تركته في يدي الوحدة يُنْهَشُ ، و نتأكّد أيضًا من غلبة معاني الحزن و صدى الحبّ المأسويّ على الشّعر الأندلسيّ الذي هو صدًى لطبيعة الحياة الإجتماعيّة السّائدة فيها الإنقلابات الخطيرة بما في ذلك الإنقلاب العاطفيّ و و تهميش دور الحبّ و الأخلاق ، و عن هذه الميزة يقول جودت الرّكابي: "ومن هنا نشأ عندهم ما يسمّى بالحبّ المعذّب الذي تفنّن الشّعراء في وصفه فرحين بالتّذلّل للحبيب والخضوع له، وقلّما حدّثنا الشّاعر عن أفراح الغرام فهو إذن ألم دائم". ( ص 121 ) .
6 ـ موقف الشّاعر من الزّمن :
اعتاد الشعراء العرب جعل الزمن كائنًا خفيًّا قويًّا صعب المراس معاديًا للإنسان باستمرار، يتربّص به في كلّ حين ليهدم لذّاته ويفرّق شمله عن الأحبّة والخلاّن، و رغم أنّ الدّين الإسلامي حاول عقد مصالحة بين الإنسان و الزّمن و ذلك بترسيخ الفكرة الجديدة المنافية للفكرة الجاهليّة ، إذ أكّد الإسلام أنّ هناك حياةً أخرى بعد الموت أفضل من الحياة الدّنيا وأنّ الإنسان لا ينتهي ولا يفنى بالموت وعليهم أن لا يفزعوا من هذا المصير بل عليهم أن يرحّبوا به لأنّهم سينتقلون إلى ما هو دائم السّعادة، فإنّ الشّعراءـ وهم يمثّلون أفراد المجتمع ـ حافظوا على النظرة التقليدية ، و منهم ابن زيدون الذي اعتبر أن الزمن من بين الأعداء الذين دمروا علاقته بالحبيبة ، و انقلب عليه بعد أن وفر له السعادة ، فيقول :
مـن مبلغ الملبسينا بانـتـزاحـهـم *** حزنا مع الدهر لا يبلى و يبلينا
أن الزمان الذي مازال يضحكنا *** أنسا بقربهم قد عـاد يـبـكـيـنـا
ويرى ابن زيدون أن لحظات الوصل التي نعم بها في الماضي بقرب الحبيبة كانت سرقات من الزمن في غفلة منه ، و على هذا النّحو يتشكّل معنى الدّهر العدوّ و الدّهر الرّقيب الذي لا يهدأ له بال حتى يفرّق بين الحبيبين ، و كأنه خلق من أجلهما ، فنرى الشاعر من أولئك المرضى النفسانيين الذين يعانون من عقدة الإضطهاد ، و يرون أن كل من وما في الكون يضطهدهم ، فيقول :
يوم كأيام لذات لنا انصرمت *** بتنا لها حين نام الدهر سراقا
و يرى ابن زيدون أنّ الصّفة الرّئيسيّة للزّمن هي الغدر بالإنسان فما عليه إلاّ أن يحذره و لا يطمأنّ له ، فإساءته قاعدة وإحسانه استثناء و خطأ غير متعمّد ، فيقول في الصّفحة 87 من قصيدة داليّة :
هو الدّهر مهما أحسن الفعل مرّةً *** فعن خطأ لكن إساءته عمْدُ
حذارك أن تغترّ منه بجانبٍ ، *** ففي كلِّ وادٍ من نوائبه سعْدُ
ونشير هنا كما ورد في الديوان إلى أنّ الشّاعر يضمّن المثل القائل "في كلّ أرض سعد بن يزيد" و مفاده أنّ شخصًا يدعى الأضبط بن قريع بن عوف بن كعب بن سعد بن زيد رحل عن قومه لأنّهم لم يحسنوا معاشرته لكنّه وجد من غيرهم ما وجد من قومه فقال: "في كلّ أرض سعد بن يزيد".
و حين تأكد ابن زيدون من هذه الصّورة القاتمة للدّهر، وأيقن أنّ الماضي لا يمكن أن يعود أبدًا، وأنّ القطيعة عن الحبيبة صارت واقعًا حتميًّا لا مهرب منه و جه نظره إلى المستقبل الأخروي . فكيف يفلسف ذلك ؟
7 ـ المستقبل / الخلاص الأخروي :
تكمن طرافة ابن زيدون في هذا العنصر، حيث إنه لم يقف عاجزا مثل الشعراء السابقين عن الأمل والطموح والتفاؤل باستعادة حبه، ولم يكتف بالوقوف على أطلال الماضي، بل إنه غير الأفق و صار ينظر إلى المستقبل الأخروي الذي سيمكنه من تجديد وصله بالحبيبة التي أحب في الحياة الدنيا، فيكون بذلك مؤمنا بخلود الحب ودوامه في الحياة الآخرة، وهي نظرية العذريين فجميل بثينة عزى نفسه بلقاء الحبيبة في الآخرة، وهي كذلك نظرية ابن حزم الأندلسي الذي يرى أن الحب الوحيد الصادق يستمر حتى بعد الموت والبعث في الآخرة فيقول ابن زيدون:
إن كان عزّ في الدنيا اللقاء بكم *** ففي موقف الحشر نلقاكم و تلقونَا
III ـ ابن زيدون بين الإباحيّة و العذريّة:
لم نجد من الدارسين من صنف ابن زيدون ضمن اتجاه غزلي من الاتجاهين المعروفين في الشعر العربي، وهما الغزل العذري والغزل الإباحي، لكن المتأمل في شعره يلاحظ تنقله بينهما، فهو يبدو أحيانا إباحيا، ويبدو أحيانا أخرى عذريا، فمن ناحية الغزل الإباحي نلاحظ ارتباط شعره ببيئته الأندلسية المتسمة بالتحرر والتمدن والاختلاط المفرط بين الرجل والمرأة، فجاءت بعض الأبيات راشحة إباحية، ناطقة عن تلك البيئة، فالشاعر يصف الحبيبة جماليا ذاكرا بعض مواطن جمالها المغرية مثل قوله:
و الروض عن مائه الفضي مبتسم *** كما شققت عن اللّبّات أطواقا
واللّبّات هنا هي موضع القلادة من الصدر المتكشف للناظر، كما يصور عذوبة ريقها ويشبهه بالخمرة، فيقول:
هلا مزجت لعاشقيك سلافها *** ببرود ظلمك أو بعذب لماك
و يصف الخد قائلا:
مفضض الثغر له نقطة **** من عنبر في خده المذهب
و يذكر في بعض الأبيات ما يشي بلقاءاته السّريّة بالحبيبة و قربه الحسّيّ منها ، فيقول مثلاً في الحائيّة ( ص 30 ) :
لم أنس ، إذ باتت يدي ليلةً ، *** وِشاحَهُ اللاّصق دون الوشاحِ
ألممت بالألطف منه ، و لم *** أجنحْ إلى ما فيه بعض الجُناحِ
بل ويصف الممارسة الحسّيّة على طريقة امرئ القيس في معلّقته ، من ذلك قوله في الرّائيّة ( ص 168 ) :
فرشفت الرّضاب أعذب رشفٍ، *** و هصرت القضيب ألطف هصرِ
و نعمنا بلفّ جسم بجسمٍ ، *** للتّصافي و قرع ثغر بثغرِ
وذكرنا سابقًا أنّه يتغنّى حتّى بالصّدر وهو الجزء الخفيّ أي أنّه يمعن النّظر في الأجزاء المغرية و له الحقّ في ذلك نظرًا للباس المرأة الشفّاف أو المكشوف في تلك البيئة و الذي تريده أن يبرز مفاتنها ، فيقول في الصّفحة 35 :
والصّدر ، مذ وردت ، رفهًا نواحيه *** توم القلائد، لم تجنح إلى صدرِ
ومعنى البيت أنّ حبّات القلائد التي تطوّق بها جيدها تحطّ على الصّدر وتأبى أن تميل عنه، والمعنى الإباحي هنا واضح و لأنّ الشّاعر ينظر إلى حبّات القلائد ويتمنّى لو أنّه موجود مكانها.
ولكن لا بد من الإشارة هنا إلى أنّ هذه الإباحيّة لم تكثر في ديوان ابن زيدون بالشّكل الذي نجده لدى امرئ القيس أو عمر بن أبي ربيعة.
أمّا من ناحية الغزل العذري فقد تعرضنا لذلك حين درسنا صورة العاشق والقيم التي يؤمن بها في الحب، إذ وجدنا الشاعر محبًّا وفيًّا مخلصًا صادقًا في حبه عازما على التضحية بنفسه في سبيل الحبيبة، ويفديها بكل ما يملك، ووجدناه معانيا متمسكا بمعاناته، مجاهدا إلى آخر المطاف، بل ومؤمنا بالحب الأخروي، ويرى أن العاشق الصادق الذي لا يناله من الحب والحبيب غير الألم والمعاناة، يكون مصيره في النهاية الموت بسبب ذلك، ويرفع الحب إلى درجة المقدس، فيقول جاعلا الحب دينا:
قـــل لـمـن دان بـهـجـري *** و هـــواه لــي ديـــــن
ويقول جاعلا صبره مثل صبر الصائم على الماء القراح:
فديتك، إن صبري عنك صبري، *** لدى عطشي على الماء القراح
وإذا كان الحب العذري غريبا عن البيئة الأندلسية لأنه حب مشرقي أولا، ولأن البيئة الأندلسية تدهورت في عصر ابن زيدون وتجوز الحب الصادق، فإن شاعرنا استطاع أن يكون مثل العذريين، وربما يكون لظروفه السياسية دور في جلبه إلى هذا الاتجاه الغزلي .
IV ـ ابن زيدون شاعر مأسويّ :
إنّ القارئ لغزل ابن زيدون و نسيبه ـ بل ومدحه أيضًا ـ بتمعّن لن يجد فيهما إلاّ صوت شاعر أنهكه الحبّ وأرهقته الأيّام واستولت عليه معالم الحزن و العذاب و الألم ، هجرته حبيبة كانت له في الماضي القريب حظوة لديها ، و مازالت لها إلى اليوم مكانة عليّة في قلبه، و هو العاشق الذي يضع نفسه مع العذريين وفيًّا مخلصًا لا يحبّ إلاّ مرّةً واحدةً و إن أحبّ فإنّه يخلص مهما تكن النّتائج ، ولا يتخلّى عن امرأة أحبّها لأنّه يظلّ متوهّمًا عودتها إليه ، لأنّها لن تجد رجلاً يحبّها كما أحبّها هو ، و لكن تمرّ الأيّام و هذه الحبيبة لا تكترث برسائله ، و لا تأبه بتوسّلاته ، و لا تعيره أيّة شفقة و لا تأخذها به رحمة ، تظلّ على عنادها و تكبّرها و إذلالها ، تقضّي أيّامها بعيدةً عنه و ربّما في أحضان البديل البغيض إلى نفس شاعرنا إذا ثبت أنّ هذه الحبيبة هي دومًا ولاّدة الأميرة ، و يظلّ الشّاعر ملاحقًا السّراب نتيجة لذلك محافظًا على وهمه الكبير، ومن هنا أتت مأساته، إنّها مأساة شاعر يعيش بالحبّ و للحبّ يفكّر بالقلب ويقلب الفكر، ويقلّب الأمور فلا يجد من حلّ سوى أن يتعلّق بالماضي ويكفّ عن الشّعور بالحاضر أو التّفكير بمستقبل مغاير، إنّها مأساة شاعر أحبّ مرّةً و دفع كلّ رأسماله العاطفي مقابل هذا الحبّ الذي رآه عظيمًا فملأ كيانه واستحوذ على أركانه، مأساة شاعر لم ينل من المرأة التي أحبّ غير النّوائب، ولم ينعم بوصلها إلاّ للحظات معدودات ولكنّه ينعم بذكرها على مرّ الأيّام، ويجد متعةً في ألمه مثل ذلك المازوخي الذي كلّما تألّم ازداد استعذابًا لذاك الألم وطلب المزيد، وهي في الحقيقة مأساة كلّ انسان يؤمن بالحبّ مع امرأة لا تستحقّ ذلك الشّعور، وفي مجتمع لا يحترم هذه العاطفة الإنسانيّة العظيمة التي تأسّس عليها الكون وبنيت عليها الحياة ـ في نظرنا ـ، ومأساة الإنسان الأندلسيّ الذي تبعثرت أحواله وتبدّدت قيمه واستولت عليه الأنانيّة والسّلبيّة المقيتة . إنّ ابن زيدون في نظرنا خير ممثّل للاتجاه المأسويّ الغالب على الغزل العربي لأنّنا في الحقيقة ـ وباستثناء عمر بن أبي ربيعة لم نجد شاعرًا صوّر باستمرار لذّة الوصل و نعيم القرب و سعادة الحبّ الدّائم و متعة الغرام مع حبيبة لا تمنعها أعراف المجتمع من التّواصل و لا تطالبها بالبخل بالعواطف ، إنّ قدر العشّاق العرب أن يصيبوا من وراء حبّهم المأساة الدّائمة فحتّى ما يسمّى بالغزل الإباحيّ الذي يصوّر فيه الشّاعر اللّقاءات الغراميّة الممتعة تتوفّر فيه بعض معاني التشكّي و الألم و النّتيجة العامة هي أنّه "لم يحدّثنا الشّعراء كثيرًا في أدبنا العربيّ عن أفراح الغرام، وأكثر غزلنا وصف لتباريح الهوى و عذاب الشّوق و قسوة المحبوبة " . ( جودت الرّكابي ، 173 ) .
إنّ هذه اللّحن المأسويّ في غزل ابن زيدون من بين أهمّ الأسباب التي تحبّب إلينا شعره لأنّه كان فيه صادقًا ولم يكن خجولاً من أن يصوّر نفسه وهي تحسّ العذابات المتعدّدة، ولم يخجل من تضخيم مكانة المرأة في حياة الرّجل لأنّها في الحقيقة هكذا وإن أنكر المنكرون، بل وقدّم فكرة واقعيّة عمّا يحسّه المحبّ في خلواته، وينكره في جهره، ووجد فيه كلّ محبّ ما يشفي غليله ويمنحه الصّبر دواءً لعشقه ، إنّ المأساة في غزل ابن زيدون أن كشف ذواتنا وصارح أنفسنا على أنفسها.

تحليل أدبيّ ـ قصيدة غزلية لابن زيدون أنموذجًا

تحليل أدبيّ
الأستاذ عبد الوهاب الشتيوي
معهد الحبيب ثامر، صفاقس
الجمهورية التونسية
­ وضع في إطاره النّصّ :
هذا النّصّ قسم النّسيب من قصيدة مطوّلة في 50 بيتًا على البحر الخفيف التّام أرسلها ابن زيدون إلى أبي القاسم بن رفق :
­ الـــنّـــصّ :
عِذَرِي ، إنْ عذلت في خلع عُذْرِي *** غصن أثمرت ذراه ببدرِ
هزّ منه الصِّبا ، فقوّم شطرًا ، *** و تجافى عن الوشاح بشطرِ
رشأٌ أقصد الجوانح قصدًا ، *** عن جفون كحلن عمدًا بسحرِ
كسي الحسن ، فهو يفتنّ فيه ، *** ساحبًا ذيل برده المسبكِرِّ
أبرز الجيد في غلائل بيضٍ ، *** و جلا الخدّ في مجاسد حُمرِ
و تثنّت بعِطْفِهِ ، إذْ تهادى ، *** خطرةٌ تمزُجُ الدّلال بكِبْرِ
زارني بعد هجعة ، و الثّريَّا *** راحة تقدُرُ الظّلام بشِبْرِ
يا لها ليلةً تجلّى دجاها ، *** من سنا وجنتيه ، عن ضوء فجرِ
قصّر الوصل عمرَها ، و بوُدِّي *** أن يطول القصير منها يعمرِي
منْ عذيري من ريب دهر خؤون ، *** كلَّ يوم أُراع منه بغدرِ
بان عنّي ، و كان روضة عيني ، *** فغدا اليوم و هو روضة فكرِي
كلّما قلت حاك فيه ملامي ، *** نهستني منه عقاربُ تسرِي
ابن زيدون ـ الدّيوان ص 166 ß 168
دار الجيل بيروت ـ 1990
­ الشـّــــــرح :
1 ـ العِذَرُ : الإعتذار و العُذْرُ / 2 ـ عذل : لام / 3 ـ العُذُرُ : الحياء / 4 ـ ذراه : أعاليه / 5 ـ البدر : الشّخص الذي يشبه البدر ß عذره في ترك حيائه أنّه في صحبة حسناء / 6 ـ الرّشاٌ : الظّبي / 7 ـ أقصد الجوانح : طعنها طعنةً صائبةً / 8 ـ المسبكرّ : المستطيل و المسترسل / 9 ـ الغلائل : ج غلالة ، و هو الشّعار يلبس تحت الثّوب / 10 ـ جلا الخدّ : أظهره و أبرز محاسنه / 11 ـ المجاسد : ج مِجسد ، و هو القميص الذي يلي البدن ، و لعلّه قصد المُجسد و هو الثّوب المصبوغ بالأحمر / 12 ـ تثنّت : تمايلت / 13 ـ العِطف : الجانب / 14 ـ الخطرة : المشية و اليدان تتحرّكان صعودًا و نزولاً / 15 ـ الكِبر : الإعجاب بالذّات / 16 ـ هجعة : النّومة الخفيفة / 17 ـ تقدُرُ : تقيس / 18 ـ تجلّى دجاها : تبدّد ظلامها / 19 ـ السّنا : النّور / 20 ـ ريب الدهر : مصائبه / 21 ـ حاك فيه ملامي : أثّر فيه / 22 ـ نهستني : نهشتني و لدغتني .
­ الأســـئـــلـــة :
حلّل هذا النّصّ تحليلاً أدبيًّا مسترسلاً ، مستعينًا بالأسئلة التّالية :
ـ أدرس بنية الإيقاع ، و علّق على بنية النّصّ و العلاقة بين أقسامه .
ـ ما هي محاسن الحبيبة التي تغنّى بها الشّاعر ؟ و ما هي مصادره التّصويريّة ؟ و هل تراها قد تضمّنت كلّ المجالات ؟
ـ أَبِرزْ التّقابل بين صورتي الماضي و الحاضر ، و تبيّن نفسيّة الشّاعر في كل منهما ، و حدّد الوسائل اللّغويّة و الأسلوبيّة التي اعتمدها الشّاعر لتشكيل هذه الصّورة .
ـ كيف اجتمعت معاني التّغنّي و التّشكّي في النّصّ ؟ و هل يعكس هذا الإجتماع ططبيعة غزل ابن زيدون ؟
­ الإنـــجـــاز :
I ـ الـــفـــهـــم :
1 ـ يندرج هذا النّصّ ضمن غرض الغزل و معاني الغزل الرّئيسيّة هي : التّغنّي بالمعشوقة ـ تذكّر الماضي ـ شكوى الحاضر ـ (وشكوى الحبيبة في الغزل الأندلسيّ ) .
2 ـ النّصّ غزليّ لإبن زيدون : يغلب على غزل ابن زيدون شكوى الحاضر ـ الحنين إلى الماضي ـ التوسّل إلى الحبيبة الرّجوع إليه ـ الإخلاص لها رغم هجرها و سلوّها ـ عتابها ـ التّغنّي بصفاتها الجسديّة فقط ـ تشبّهه بالعاشق العذري .
3 ـ يبدو ابن زيدون اباحيًّا من خلال وصف المعشوقة ، و عذريًّا من خلال وصف حالته و ذكر قيمه في العشق .
4 ـ تتنوّع الأساليب في غزل ابن زيدون : الخبر ـ الإنشاء ـ البديع و لاسيّما المقابلة و الجناس .
5 ـ تتنوّع المعاجم : العاطفي ـ القيمي ـ الطّبيعي الأندلسي .
6 ـ تعدّدت المعاني في هذا النّصّ نظرًا لتعدّد الأقسام : أ ـ التغنّي بجمال المعشوقة / ب ـ الإستمتاع بإسترجاع الماضي / ج ـ شكوى الحاضر و اتهام الدّهر / د ـ معاتبة الحبيبة لبعدها عنه .
7 ـ تتقاطع هذه القصيدة مع باقي غزل ابن زيدون ، و تعكس أهمّ معالمه الشّكليّة و المضمونيّة .
5 ـ أشار الشّاعر في هذه القصيدة إلى حبيبة غير مسمّاة فلا فائدة من إكثار الحديث عن علاقته الشّهيرة بولاّدة ، و يجب أن لا ننساق وراء ذلك فنقول مثلاً : إنّه يتغنّى بولاّدة .
III ـ الـــتّـــحـــلـــيـــل :
1 ـ تقديم النص :
ـ نص شعريّ عموديّ غزليّ عربيّ قديم للشّاعر الأندلسيّ أبي الوليد أجمد بن زيدون مقتطف من ديوانه الصّادر عن دار الجيل ببيروت سنة 1990 ، بين الصفحتين ستٍّ و ستّين و مائة ، و تسعٍ و ستّين و مائة ، و قد نظم على البحر البسيط التّام ، و رويّه " العين " المكسورة ، و هو قسم النّسيب من قصيدة مطوّلة أرسلها الشّاعر إلى أبي القاسم بن رفق .
ـ ابن زيدون شاعر أندلسي شهير عاش في القرن الخامس للهجرة ، تقلّد مناصب سياسية في دولتين من دول الطّوائف هما دولة بني الجهور بقرطبة ، و دولة بني العبّاد بأشبيليّة و لقّب " بذي الوزارتين "، عرفت حياته تقلّبات عديدة ونكبات أهمّها دخوله السّجن بسبب شكّ أبي الحزم بن جهور به وتسريب أعدائه معلومة مفادها أنّه يسعى إلى إعادة حكم الأمويين في قرطبة، وانقطاع علاقته العاطفية بولاّدة بنت المستكفي التي ربطها الدّارسون به كما ربط جميل بن معمر ببثينة، وهجرته عن موطنه قربة وفراقه أهله.
2 ـ الموضوع :
تغنّي الشّاعر بحسن حبيبته، مستمتعًا باسترجاع لحظة وصال ماضيةٍ، شاكيًا حاضر البعد.
3 ـ أقسام النص :
أ ـ من ب 1 ß ب 6 : وصف الحبيبة .
ب ـ من ب 7 ß ب 9 : لحظة الوصال الماضية .
ج ـ من ب 10 ß ب 12 : شكوى الدّهر و البعد .
4 ـ الإشكاليّات :
أ ـ ما هي محاسن الحبيبة ؟ و ما هي مصادرها ؟ ما مدى قربها من الصّفات التقليديّة التي رسّخها الشّعراء السّابقون ؟
ب ـ ما هي الصورة التي رسمها الشّاعر للحظة الماضي ؟ و كيف عبّر عنها نفسيًّا و أسلوبيًّا ؟
ج ـ ما هي علاقة الشّاعر بالحاضر خاصةً و الدّهر عامةً ؟
4 ـ الجـــوهـــر:
 التّحليل :
أ ـ بنية القصيدة و إيقاعها :
ـ ورد في تأطير النّصّ أنّ هذه الأبيات قسم النّسيب من قصيدة مطوّلة غرضها الرّئيسيّ المدح ß التزام ابن زيدون بهذه البنية الشّعريّة دليل على تقليده و ايمانه بقيمة هذه البنية و هذا القسم الإستهلاليّ الذي يقول عنه ابن رشيق : " و للشّعراء مذاهب في افتتاح القصائد بالنّسيب لما فيه من عطف القلوب ، و استدعاء القبول بحسب ما في الطّباع من حبّ الغزل ، و الميل إلى اللّهو و النّساء " . ( العمدة ، 225 ) ، و اثبات لقدرته على محاكاة الشّعراء السّابقين .
ـ جمعت القصيدة بين 3 أقسام مترابطة عضويًا و متسلسلة منطقيًّا ، يفضي أحدها إلى الآخر : ورود القسم 1 في التغنّي بجمال الحبيبة فأدّى ذلك إلى تناول موضوع ذكرى الماضي الجميل في القسم 2 ، ثمّ ختم الشّاعر في القسم 3 بشكوى الحاضر لأنّ ذكر الماضي لا يدوم من جهة و ذكره من جهة ثانية يشعر بتعاسة الحاضر .
ß هذه البنية متواترة في شعر ابن زيدون ، و قد لا نجد الأقسام مرتّبةً دائمًا بهذا الشكل ، و لكن المهمّ هو أنّه يحافظ في الغالب على الأقسام نفسها لا سيّما المراوحة بين الماضي و الحاضر .
ß هذه البنية أيضًا ليست غريبة عن الشّعر العربي القديم ، ففي قصائد النّسيب نجد الوقوف على الأطلال ثمّ ذكر الماضي ثمّ وصف الحبيبة ثمّ متابعة الرّحلة في الحاضر ، و إن لم يقف ابن زيدون على أطلال ماديّة دارسة ، فقد وقف على أطلال معنويّة هي سعادة الماضي الآفل .
ß حضور ثنائيّة الأسس العربيّة و الخصوصيّة الأندلسيّة في شعر ابن زيدون .
ـ البحر : الخفيف التّام بحر مزدوج التفعيلة قاعدته " فاعلاتن مستفعلن فاعلاتن × 2 " ß من البحور التقليديّة و المستعملة في شعر ابن زيدون ، و من البحور الخفيفة ( مثل المتتقارب ) لأنّه لا يحتوي إلاّ 24 مقطعًا عروضيًّا .
ـ الرّويّ :" الرّاء " المكسورة ß حرف رنّان في الموسيقى ، غنائيّ ß توفّر الغنائيّة في القصيدة بمظهرين مختلفين : 1 ـ الإستمتاع بجمال الحبيبة و لحظة وصال الماضي . 2 ـ بكاء الحاضر الأليم .
ـ التّصريع : متوفّر ß تقليد عروضي حافظ عليه ابن زيدون ، إمّا لعجزه عن التخلّص منه و توهّمه أنّه سرّ من أسرار بدء القول الشّعري ، أو ليثبت قدرته على محاكاة الشّعراء السّابقين و الإلتزام بما التزموا به .
ـ الإستهلال : تقليدي ß لا وجود للوقفة الطّلليّة ، و لكن هناك معنى الشّكوى و طلب المساعدة .
ـ الحروف المكرّرة : يكرّر ابن زيدون استعمال حرف ما في كلّ بيت فتتولّد نغميّة الحروف : ب 1 ( العين و الذّال و الرّاء ) / ب 2 ( الشّين ) / ب 3 ( الجيم و الحاء ) ب 4 ( السّين ) ب 5 ( الجيم ) / ب 6 ( الدّال ) / ب 9 ( الصّاد ) / ب 10 و 11 ( العين ) / ب 12 ( الميم و النّن ) .
ï نهضت القصيدة على موسيقى شعريّة ثريّة تقليدًا و تحديثًا و ساهمت بدور كبير في التّأثير في أذن المتلقّي فالشّعر موسيقى قبل أيّ شيء آخر و هي التي " تجعل المعاني ألصق بالأسماع " حسب رأي ابن رشيق القيرواني ، كما ساهمت في إثبات صنعة ابن زيدون الشّعريّة.
ب ـ اللّغة و الصّور و المعاني :
1 ـ القسم الأوّل / التّغنّي بالحبيبة :
ـ الاستهلال : التماس الشّاعر العذر لتعلّقه بالحبيبة ß هناك لوم من قبل الآخرين ، و دفاع من قبل الشّاعر ـ يلام على تعلّقه بالحبيبة لكنّه يجد العذر و هو : جمال الحبيبة الأخّاذ الذي لم يستطع عليه صبرًا .
ـ في هذا الاستهلال توجيه خطاب إلى المتقبّل اللاّئم ß تقليد من حيث استحضار المخاطب في بيت الإستهلال ( الخليلان في القصيدة التقليديّة ) + تحديث من حيث تغيير معنى الخطاب .
ـ يلام الشّاعر لأنّه انصرف إلى اللّهو و ابتعد عن الجادّة و الحزم ، فقدّم عذر جمال الحبيبة الذي أفقده الصّواب .
ـ مظاهر جمال الحبيبة المتغنّى بها و التي يبرّر بها الشّاعر تصابيه :
1 ـ جمال القوام : تشبيهه بالغصن لاستقامته .
2 ـ بياض الوجه و ضياؤه : تشبيهه بالبدر .
3 ـ الصّبا : الشّباب و النّضارة .
4 ـ العين : مثل عين الرّشأ ( مكحّلة بالسّحر ) .
5 ـ الحسن الجسدي : كسي الحسن ( الفتنة ) ß لا يتّخذ اللّباس ليزداد حسنًا ، و إنّما الحسن مخلوق فيه .
6 ـ برده المسبكرّ : اللّباس العاكس لمظاهر التّرف .
7 ـ جمال الجيد : جمال طبيعي و صناعي من خلال حمل المعادن الثّمينة .
8 ـ جمال الخدّ : ظاهر أحمر ، تزداد حمرته باللّون الأحمر الصّناعي ( مجاسد حمر ) .
9 ـ جمال المشية : تثنّت بعطفه ـ تهادى .
10 ـ الدّلال و الكبر : الإحساس بالمكانتين الجماليّة و الإجتماعيّة الرّفيعتين.
ß جعل الشّاعر الحبيبة في المكانة العليا ـ عدّد صفاتها الجماليّة الجسديّة محاولاً الإحاطة بها ـ أحالنا على مكانتها الإجتماعيّة حيث البذخ و النّعبم .
ï في الصّفات المذكورة تقليد و تجديد :
1 ـ التّقليد : الصّفات المذكورة ليست غريبة عن الشّعر العربي السّابق لإبن زيدون مثل : اللّون الأسود للعين + تشبيه المرأة لعلوّها و بياضها بالبدر + الصّبا + تشبيه المرأة بالرّشإ و هو الظبي .
2 ـ التّجديد : التّركيز على اللّون الأبيض في الوجه و الجيد + اللّون الأحمر في الخدّ + التّركيز على إغراء المشية و إثارتها مشاعر الشّاعر الحسّيّة + تجاوز حور العين + امتلاء الجسم مثل السّاق التي تكسر الخلخال + تجاوز المحاسن الأخلاقيّة و كأنّ الشّاعر هنا يريد أن يبيّن منذ البداية غدر الحبيبة ، و الغدر ينفي عنها صفة الحسن الأخلاقيّ ß غياب هذه الصّفة قد يجعلنا نذكر ولاّدة ، و لا بأس من ذلك و لكن دون أن نجعلها هي المذكورة فعلاً في القصيدة ، لأنّ الغدر و السّلوّ من صفات البيئة الأندلسيّة في عهد ابن زيدون عامّةً . يقول عن ذلك شوقي ضيف : " ابن زيدون من خير النّماذج التي تكشف لنا النّزعتين ، فهو لا يخرج في شعره على القةاعد الموروثة ، و في الوقت نفسه ينبض شعره بحياة عصره " . ( ابن زيدون ، ص 41 ) . و يقول عنه " جيرار لوكنت " : " إنّ شعر ابن زيدون تنططبق عليه انطباقًا صفة القديم المحدث " . ( عن جعفر ماجد و الطّيّب العشّاش ، ص 42 ) .
ـ المعاجم : 1 ـ الجسدي / 2 ـ الطّبيعيّ / 3 ـ المعادن الثّمينة / 4 ـ الإجتماعيّ .
ï في تصوير جمال الحبيبة : 1 ـ تبرير العشق
2 ـ استمتاع بالتّذكّر .
3 ـ الأسف و التّحسّر على فقدان هذا الحبيب الجميل .
2 ـ القسم الثّاني / تصوير الماضي :
ـ الخبر : للإخبار عن طبيعة اللّقاء الغرامي الذي جمع بين الحبيبين في الماضي : زارني ـ تجلّى دجاها ـ قصّر الوصل عمرها ß 1 ـ الحبيبة هي المبادرة بفعل الزيارة ، فالشّاعر هنا يعترف على الحبيبة التي تنكره و تنكر حبّه الآن .
2 ـ تبديد الوصل لمعنى الزّمن ، أو للإحساس بالزّمن .
ـ إطار الزّيارة الغراميّة: بعد هجعة ـ الثّريّا ـ الظّلام ـ ليلة ß اللّيل هو الزّمن المفضّل دائمًا للّقاءات الغراميّة و لكلّ الأشياء التي يحرّمها المجتمع ( القتل ـ السّرقة ـ الصعلكة ـ الهروب من السّجن ) + اللّقاء في اللّيل تأكيد لموقف المجتمع من الحبّ + تأكيد لحضور الطّرف الثّالث المعرقل للعلاقة العاطفيّة + اللّيل هو زمن وحدة العاشق التي تبدّدها زيارة الحبيب.
ـ المقابلة : دجاها ¹ سنا ß المقابلة بين ظلام اللّيل و بياض وجه الحبيبة ß فعل الحبيبة : إنارة ظلام ليله ، أي إنارة حياته بحضورها ß ظلمة الوحدة ¹ نور اللّقاء .
ـ المجاز : إنارة وجنتيها ظلام اللّيل .
ـ التّشبيه : تشبيه وجنتيها بضوء الفجر ß التّأكيد على اللّون الأبيض المستحبّ في امرأة الغزل العربي .
ـ الإنشاء : يالها ß التّعجّب و الإعجاب و إبداء السّرور بتلك اللّيلة ß هناك أيضًا نبرة الأسف لانقضاء مثل تلك اللّيلة في الحاضر.
قصّر الوصل عمرها : الوصل متعة و سعادة لا يشعر الإنسان بزمنه ß الزّمن النّسبي النّفسي .
ï صوّر الشّاعر لقاءً غراميًّا انفراديًّا بعيدًا عن الخلق وخاصّة الأعداء من رقباء وحسّاد ووشاة وعذّال، ويثبت بهذا اللّقاء مايلي:
1 ـ سريّة الحبّ في البيئة العربيّة و إن بلغت أشواطًا من التحرّر مثلما حدث في الأندلس .
2 ـ انقلاب الحبّ في الشّعر العربيّ من سبب سعادة إلى مسبّب مأساة .
3 ـ فضح الحبيبة أمام المتلقّي بذكر لقاءاتها العاطفيّة مع الحبيب الذي تنكره في الحاضر ، أي تأكيد واقعيّة العلاقة العاطفيّة بينهما (ليست وهمًا شاعريًّا ) .
3 ـ تعلّق ابن زيدون بماضيه و تمجيده لأنّ فيه سعادته الآفلة .
ï يثبت الشّاعر بهذا القسم : 1 ـ محاكاته الشّعراء السّابقين المؤسّسين لغرض الغزل ، و على رأسهم ابن أبي ربيعة .
2 ـ الشّعر العربي متّصل الحلقات رغم ما يبدو لنا من خلال مظاهر التّجديد أنّ هناك قطيعةً .
3 ـ تصوير الماضي هو في الحقيقة تصوير لأحاسيس الشّاعر و علاقته النتوتّرة بالزّمن ، و تأكيد لمعاني الأسف و الحسرة في شعر ابن زيدون .
4 ـ التّعلّق بالماضي ثابت في الشّعر العربيّ كرّسه ابن زيدون ، فيقول عنه كامل الكيلاني: "وأقرب عبارته وصولاً إلى القلوب بكاؤه على الماضي، والتّلذّذ بذكره وما كان فيه من النّعيم.. ولقد كان ينظر إلى أيّامه الماضية فيحنّ إليها حنينًا مؤلمًا". (مقدّمة الدّيوان).
3 ـ القسم الثّالث / شكوى الهجر و الدّهر :
ـ الجمع بين الخبر و الإنشاء ، ممّا يفضي إلى المقابلة و هي أسلوب دائم في غزل ابن زيدون .
ـ الخبر : الإخبار عن فعل الحبيبة و إقرار حقيقة الوضع الجديد " بان عنّي " ß البين : البعد و الهجر = السّلوّ حسب الظّاهرة الأندلسيّة ß إدانة الحبيبة لأنّها المبادرة بالبين + يضع الشّاعر نفسه دائمًا في موضع البريء المظلوم المخدوع المتحمّل نتائج البين وحده.
ـ غدا اليوم : انقلاب الحاضر فانقلاب معنى حياة الشّاعر = روضة عيني : متعة عينه لأنّه بقربه يراه .
2 ـ روضة فكري : انشغال الشّاعر الدّائم بالحبيبة ، فهو مثل العذريين لا ينقطع تفكيره بالحبيبة بانقطاع العلاقة بينهما، ولا ينقطع القلب عن عشقها ß المأساة في العشق العذري تبدأ من هنا : حبيبة تهجر أو تغدر أو تفرض عليها الظروف الخارجيّة البعد عن المحبّ + محبّ يصرّ على التّعلّق بها متحدّيًا الواقع و الحقيقة .
روضة فكري : التفكير الدّائم بالحبيبة هو ما أنتج إحدى نهايتي العاشق العذريّ : الجنون ß تشبّه ابن زيدون في قيمه العاطفيّة وحالته النفسيّة و نهاية حبّه المأسويّة بالعاشق العذريّ ß أوجد ابن زيدون في البيئة الأندلسيّة نوعًا من الحبّ غريبًا عنها في الحقيقة، ولعلّ ذلك يكون نابعًا أصلاً من تدهور قيمة هذه العاطفة ، فبقدر ما تأثّرت سلبيًّا بأحوال المجتمع المتقلّبة ازداد تمسّك الشّعراء ـخاصّةًـ بها.
ـ المقابلة : كان ¹ غدا / روضة عيني ¹ روضة فكري ß يقابل الشّاعر بين 1 ـ الماضي و الحاضر / 2 ـ حالته العاطفيّة و النّفسيّة ماضيًا و حاضرًا / 3 ـ قرب الحبيب منه و بعده / 4 ـ الوصل و الهجر / 5 ـ الرّاحة و الإرهاق الفكريّين ß ثبات أسلوب المقابلة في غزل ابن زيدون للتّأكيد على انقلاب أحواله العاطفيّة و مأسويّة الحاضر ، و أفضليّة الماضي على الحاضر في الشّعر العربيّ القديم عامّةً مشرقيّ و مغربيّ .
ـ الاستفهام : أسلوب إنشائيّ لكشف الحالة النّفسيّة و موقف الشّاعر من الوضع العاطفيّ الجديد .
1 ـ " من عذيري من ريب دهر خؤون " : شكوى الدّهر للإحساس بالوحدة و العجز عن مواجهة الدّهر بمفرده ، والتماس المساعدة والدّعوة إلى مشاركته صراعه معه ß اعتبار الدّهر عدوًّا خفيًّا للإنسان ـ و المحبّ خاصّةً ـ يتربّص به في كلّ حين ليدمّر سعادته، ويهدم لذّاته، وهو من معرقلات الحبّ و مدمّري الوصل، ومساعدي الأعداء، فيقول عنه في قصيد أخر:
غيظ العدا من تساقينا الهوى ، فدعوْا بأن نغصّ فقال الدّهر آمينَا
ـ الدّهر خؤون : تشخيص الدّهر ـ أنسنته ( اضفاء الأبعاد الإنسانيّة عليه ) وصفه بالغدر و الخيانة لأنّه لا يثبت على حال ، فمن سرّه اليوم أساء إليه غدًا ß اتّهام الدّهر بتفتيت علاقته العاطفيّة ، و كأنّه يبرّئ الحبيبة كعادته ، ربّما طمعًا في عودتها إليه من جديد .
ï الموقف من الدّهر تقليديّ موروث في الثّقافة العربيّة شائع في الشّعر العربيّ منذ لجاهليّة ، يكشف لنا طبيعة الصّراع الوجودي المأسويّ مع الزّمن ، و الزّمن قضيّة كبرى في الفكر الفلسفيّ البشريّ ـ حاول الإسلام تهدئة هذا التّوتّر القائم بين الإنسان و الزّمن، والقضاء على مفهوم الصّراع و عقد المصالحة بدعوة الإنسان إلى عدم التّأسّف على انقضاء الزّمن و تغيّر الأحوال و ذلك بالتّفكير في زمن دائم أفضل بعد الموت ، و لكن ظلّ الصّراع قائمًا ، و هو أمر طبيعيّ في الإنسان لأنذه متأكّد من سعادته التي كانت في الماضي وفقدها في الحاضر ـ هذا الموقف أيضًا متكرّر في شعر ابن زيدون لأنّه يرى أنّ الأيّام انقلبت عليه فخسر العاطفة و السّياسة و العائلة والمجتمع ـ الموقف من الدّهر لا يعود للأزمة الشّخصيّة فقط و إنّما للأزمة الأندلسيّة عامّةً .
ـ البيت الأخير : قيامه على الإستفهام " هل ـ أم " ـ و التّاكيد على الماضي " خالي زماننا + ماضي زماننا ß يفيد الإستفهام مرّة أخرى الرّغبة المستحيلة في عودة الماضي ، و التوتّر و الإحساس بالألم بإعتبار التّأكّد من استحالة عودة الماضي ، و دوران الشّاعر في فلك مغلق : الإحساس بالألم نتيجة الحاضر + استعادة الماضي الجميل + العودة إلى الإحساس بمأسويّة الحاضر و أفضليّة الماضي عليه و تمنّي عودته = عودة الشّاعر إلى الماضي عوض عودة الماضي إلى الشّاعر .
ï هذه الحياة المغلقة و الحالة النفسيّة و الفكريّة الدّائريّة تساهم في تثبيت أزمة الشّاعر و القذف به في عالم العذريين المأسويّ .
ï قيام القسم الأخير على المقابلة و الإنشاء لتحديد موقف الشّاعر من الزّمن و علاقته به ، ورفضه للحاضر وحنينه إلى الماضي، وتأكيد توقّف مشاعره وحياته العاطفيّة وتفكيره في الماضي، وهذا هو تقريبًا عنوان مأساة ابن زيدون: شاعر أحبّ حبًّا عظيمًا فقده في الحاضر فتعطّلت مشاعره ، فلا هو نسي هذا الحبّ و لا تخلّص منه و إن رغم أنفه ، و لا عوّضه بحبٍّ آخر ، و كأنّه لم يجد من تنسيه ذلك الحبّ .
ـ المعجم : الطّبيعي الأندلسيّ من خلال لفظة " روضة " المعبّرة عن الجمال و الخصوبة في الماضي .
‚ التّأليف :
ـ قيام هذا النّصّ أسلوبيًّا على المراوحة بين الخبر و الإنشاء ، و المقابلة .
ـ قيام النّصّ من حيث معانيه على ثلاثة معانٍ رئيسيّة هي : 1 ـ التّغنّي بجمال الحبيبة و ما سبّبه ذلك من ألم و متعة للشّاعر / 2 ـ التّغنّي بلحظات الوصل الهاربة / 3 ـ شكوى الحاضر و مأسويّة الصّراع مع الزّمن .
ـ حضور الذّات الزّيدونيّة الشّاعرة المتألّمة بكثافة في هذه القصيدة، وهي الصّورة التي خلّفها ابن زيدون لنفسه في شعره...
5 ـ بناء المقدّمة :
ـ إنّنا نحرص دائمًا على تأخير التّفكير في المقدّمة لأسباب تعلّميّة بيداغوجيّة و علميّة منطقيّة منهجيّة، فنحن لا يمكن أن نفكّر في المقدّمة قبل أن تتوضّح الجوانب المختلفة للنّصّ بناءً و معنى ، و لا نريد أن تكون المقدّمة مسقطةً مكرّرة يسكبها المتكلّم على كلّ نصّ، فنتجنّب بالتّالي المقدّمات المحفوظة والمتداولة بين كلّ المتعلّمين والعامة جدًّا مثل المقدّمات التعريفيّة والتّاريخيّة والتّمجيديّة، إنّنا نريد أن تستلهم النّصّ ونستخرج من روحه مقدّمةً جيّدةً...
أ ـ المقدّمة العامة :
ـ يمكن التّقديم بالإشارة إلى ثبات المقابلة في غزل ابن زيدون حيث يقابل بين العاشقين ، كما يقابل بين الماضي و الحاضر .
ـ نقدّم أيضًا بإبراز انقلاب معاني قصيدة الغزل لدى ابن زيدون حيث لم تعد وصلاً و سعادةً بل أصبحت هجرًا و ألمًا و تعاسةً .
ـ نقدّم أيضًا بالإشارة إلى تغيّر صورة المعشوقة في غزل ابن زيدون حيث لم تحافظ على كمالها و اكتفت فقط بالكمال الجسديّ .
ـ يمكن التّقديم بالإشارة إلى أنّ غياب الغزل العذري عن البيئة الأندلسيّة لم يمنع بعض الشّعراء من التّشبّه به ، و أهمّهم ابن زيدون .
ب ـ المقدّمة الخاصة :
ـ نربط فيها بين المقدّمة العامة و النّصّ و نورد سياقه ثمّ نسجّل الأركان التي ضبطناها أثناء عمليّة الفهم ، و هي التّقديم المادي والموضوع و التّقسيم و الإشكاليّات .
5 ـ الخاتمة :
ـ نجمع في الخاتمة أهمّ الإستنتاجات التي أفضى إليها العمل تحليلاً و تأليفًا و تقويمًا دون أن نعيد ذكر ذلك بالتّفصيل ، أو الإسهاب والإطالة كأن نقول : " لقد أثبت ابن زيدون بهذه القصيدة الغزليّة أنّه متعلّق باستمرار بحبيبة نائية عنه سالية له ، لم يجد لقلبه محيدًا عنها،وأصرّ على جعلها الموضوع الرّئيس لغزله يعيش على ذكرها و يستمتع بماضيها و يئنّ لبعدها و يشكو سلوّها و يحارب الزّمن في سبيلها، و يحلم بعودتها و يتمسّك بالحبّ مبدأً في الحياة جاعلاً نفسه عاشقًا عذريًّا يلاحق حبيبةً سرابًا ، عاشقًا تعطّلت عواطفه لدى عتبات الماضي و حبيبة الزّمن الجميل الغابر فكانت المأساة الدّائمة ، لذلك فـ " ـقد كانت معاني شاعرنا في قصائده الغزليّة هذه تحوم حول اثبات حبّه و إخلاصه [ لحبيبة ] ما يزال يذكرها دائمًا لأنّه في حنين دائمٍ " . ( الرّكابي ، ص 173 ) . و أثبت ابن زيدون أيضًا أنّه شاعر مجيد من النّاحية الفنّيّة لأنّه يجعل القصيدة متناغمةً من حيث إيقاعها و أساليبها و أفكارها ، و يقدّم لنا فكرة هامة عمّا بلغه الشّعر الأندلسيّ معه وفي القرن الخامس هجريَّا من تطوّر " .

تحليل أدبيّ

lundi 18 octobre 2010

دراسة نص/ السنة الثالثة شعب علميّة


معهد الحبيب ثامر بصفاقس
فرض مراقبة عدد 1 في العربيّة
السنة الدراسية: 2009 ـ 2010
الاسم واللّقب:
الأستاذ: عبد الوهاب الشتيوي
القسم: 3ع ت3
من "المقامة الموصليّة"
حدّثنا عيسى بن هشام قال:... دُفعنا إلى دارٍ قد مات صاحبها، وقامت نوادبها، واحتفلت بقوم قد كوى الجزع قلوبهم، وشقّت الفجيعة جُيوبهم... فدخل الإسكندريّ الدّارَ لينظر الميّتَ، وقد شُدّت عصابته ليُنقل، وسُخّن ماؤه لِيُغسلَ، وهيّئ تابوته ليُحمل، وخيطت أثوابه ليُكفّن، وحفرت حفرته ليُدفن... فأخذ حلقة وجسّ عِرقه، وقال: يا قوم اتّقوا الله لا تدفنوه فهو حيٌّ، وإنّما عرته بهتة... وأنا أسلّمه مفتوح العينين بعد يومين، فقالوا: من أين لك ذلك؟، فقال: إنّ الرّجل إذا مات برُدَ إِبِطُهُ، وهذا قد لمسته فعلمت أنّه حيّ، فجعلوا أيديهم في إبطه فقالوا: الأمر على ما ذكر، فافعلوا كما أمر.
وقام الإسكندريّ إلى المّيّت، فنزع ثيابه ثمّ شدّ له العمائم، وعلّق عليه التّمائم [الحجاب، الرُّقى]، وألعقه الزّيت، وأخلى له البيت، وقال: دعوه ولا تروّعوه... وخرج من عنده وقد شاع الخبر وانتشر بأنّ الميّت قد نُشِرَ... وانثالت علينا الهدايا من كلّ جار، حتّى ورم كيسنا فضّة وتبرًا، وامتلأ رحلنا جبنًا وتمرً، وجهدنا أنْ ننتهز فرصة في الهرب فلم نجدها، حتّى حلّ الأجل المضروب، واستُنجز الوعد المكذوب.
فلمّا ابتسم ثغر الصّبح... جاءه الرّجال والنّساء أزواجًا، وقالوا نحبّ أنْ تُشفي العليل، وتدع القال والقيل، فقال الإسكندريّ: قوموا بنا إليه، ثمّ نزع التّمائم عن يديه، وحلّ العمائم عن جسده، وقال: أنيموه على وجهه، فأُنيم، ثمّ قال: أقيموه على رجليه، فأقيم، ثمّ قال: خلّوا عن يديه، فسقط رأسًا، وطنّ الإسكندريّ بفيه، وقال: هو ميّتٌ كيف أحييه؟ فأخذه الخفّ، وملكته الأكفّ، وصار إذا رُفعت عنه يدٌ وقعت عليه أخرى.
بديع الزّمان الهمذانيّ، المقامات، ص ص98، 99

1 ـ ضع تقسيمًا للنصّ معتمدًا البنية القصصيّة معيارًا. (1.5ن)
أ ـ من بداية النصّ ← جيوبهم وضع البداية / مصيبة القوم.
ب ـ من فدخل ← فسقط رأسًا: سياق التحوّل / تحيّل الإسكندريّ.
ج ـ بقيّة النصّ: وضع الختام / اكتشاف التّحيّل ومصير الإسكندريّ.
2 ـ يقوم النّصّ على مفارقة بين صفات الإسكندريّ وصفات أهل الميّت. وضّح ذلك.(1.5ن)
الإسكندريّ واعٍ وأهل الميّت فاقدو الوعي لانصرافهم الكلّي إلى الحزن ـ الإسكندريّ عابث وأهل الميّت جادّون ـ الإسكندريّ مشاعره مستقرّة وأهل الميّت مشاعرهم حزينة ـ الإسكندريّ يمارس العقل وأهل الميّت يمارسون العاطفة ـ الإسكندريّ خبيث داهية وأهل الميّت طيّبون سذّج ـ الإسكندريّ مزيّف للقيم (حرمة الميّت) وأهل الميّت محافظون عليها.
3 ـ استخرج أربعة مظاهر للإضحاك في النّصّ؟(2)
أ ـ جسّ الإسكندريّ الميّت وفحصه رغم تأكّده من موته.
ب ـ ادّعاء أنّ الرّجل حين يموت يبرد إبطه، وميّت هؤلاء القوم مازال إبطه دافئًا.
ج ـ معالجته للرّجل بكلّ تلك الأشياء.
د ـ سقوط الميّت، وضرب الإسكندريّ.
4 ـ لخّص النّص في خمسة أسطر مستعملاً الأمر والنّهي. (4 ن)
حدّثنا عيسى بن هشام قال: أتيتُ ذات يوم والإسكندريّ دارًا توفّت المنيّة صاحبها، وأعيى الحزن أهلها، فدخل الإسكندريّ البيت، ونظر الميّت، وقال لهم: كفّوا عن البكاء فهو حيّ يرزق، وصبرًا جميلاً حتّى أعيده إلى سالف نشاطه سليمًا معافى، وصدّقه القوم بعد أنْ بيّن أنّ إبطه مازال دافئًا عكس ما يكون عليه الميّت، فانهالت عليه الهدايا والعطايا، وبدأ يعالجه بالتّمائم والعمائم، ويسقيه الزّيت حتّى الصّباح، فجاء القوم، وقالوا: لا تقلْ إلاّ الحقّ، ولا تعبث بنا، واحيِ الميّت، فذهب بهم إليه، فأنهضه وأجلسه، وأقامه لكنّه كان يتساقط، فاكتُشف أمره، وأُشبع ضربًا ولطمًا.
5 ـ هل تعتقد أنّ الهمذانيّ ألّف هذه المقامة من أجل إضحاك النّاس، والتّرفيه عنهم؟ (3ن)
لا يمكن القول إنّ الهمذانيّ ألّف مقامته هذه من أجل إضحاك النّاس والتّرفيه عنهم فحسب، كما لا يمكن إنكار رغبته في تحقيق هذه الوظيفة، فالمقامة خطاب ساخر جادّ في آن واحد، حالفة بألوان الإضحاك والهزل والفكاهة، تنعش النّفس، وتطرب العاطفة، ترفّه على المكلوم الجريح الذي أرهقته الحياة بصنوف مشاكلها، وتصاريف أيّامها، وعبثت بأحلامه وأمانيه، وتجدّد نشاطه، وتضحكه منها بدل الحزن والغمّ، لكنّ المقامة أيضًا تحمل من النّقود الموجّهة إلى المجتمع مظاهر عديدة، فالهمذانيّ نقد قيم المجتمع النّاشئة الفاسدة مثل التّخلّي عن الكرم والتمسّك بالبخل تشبّهًا بالفرس، ونقد ممارسة العنف المادّي واللّفظيّ بين أفراد المجتمع، والتّعدّي على أملاك الآخرين، والسّرقة واللّصوصيّة وقطع الطّريق، والتّعدّي على حرمات الدّين وتشويهه، ونقد أحوال الاقتصاد، وانتشار الفقر والمجاعة والتّسوّل وقلّة موارد الرّزق...
6 ـ إنتاج تّحرير: (8 ن)
"لجأ الكتّاب العرب القدامى إلى الفكاهة من أجل الإمتاع والنّقد في آن".
حلّل هذه الفكرة مستندًا إلى الأمثلة والشّواهد ممّا درست.
1 ـ الغاية الإمتاعيّة:
ـ الإضحاك من أجل التّرفيه عن النّفس، وتمكين النّفس من تجديد نشاطها.
ـ مقاومة الحالات العصبيّة التي يمكن أنْ تنتاب الإنسان.
ـ السخرية من الحياة بدل تحميل الذّات ما لا تحتمل.
ـ ملء لحظات الفراغ بما لذّ وطاب من فنون الإضحاك والفكاهة.
ـ تمتين العلاقات بين الأفراد والجماعات والتّقريب بين الطّبقات عبر النّصوص الهزليّة.
2 ـ الغاية النّقديّة:
ـ نقد البخل: بعض المقامات، ونوادر الجاحظ في "البخلاء".
ـ نقد التّقلّبات الاجتماعيّة والتّحوّلات الاقتصاديّة إلى درجة انتشار المجاعة: المقامة المجاعيّة.
ـ تشويه صورة الدّين، واستغلاله من أجل قضاء المآرب الشّخصيّة الخسيسة: المقامة الموصليّة.
ـ نقد المشاكل الاجتماعيّة بين الجماعات والطّبقات، وانتشار مظاهر العنف: المقامة الحلوانيّة والمقامة البغداديّة.
ـ انتشار الحيلة والكُدية، واستغلال طيبة بعض الأفراد وسذاجتهم: المقامة البغداديّة.
ـ تراجع الموارد الاقتصاديّة، وتقلّص فرص الشّغل: المقامة الحلوانيّة.
ـ انصراف الحكّام إلى اللّهو والأنس.
ـ إنفاق أموال الدّولة على المتفكّهين أمثال أبي دلامة.
وفق الله الجميع

mercredi 13 octobre 2010

نموذج فرض دراسة نصّ: الثالثة علوم ورياضيات


معهد الحبيب ثامر بصفاقس
فرض مراقبة عدد 1 في العربيّة
السنة الدراسية: 2009 ـ 2010
الأستاذ: عبد الوهاب الشتيوي
القسم: 3ع ت3
من "المقامة الموصليّة"
حدّثنا عيسى بن هشام قال:... دُفعنا إلى دارٍ قد مات صاحبها، وقامت نوادبها، واحتفلت بقوم قد كوى الجزع قلوبهم، وشقّت الفجيعة جُيوبهم... فدخل الإسكندريّ الدّارَ لينظر الميّتَ، وقد شُدّت عصابته ليُنقل، وسُخّن ماؤه لِيُغسلَ، وهيّئ تابوته ليُحمل، وخيطت أثوابه ليُكفّن، وحفرت حفرته ليُدفن... فأخذ حلقة وجسّ عِرقه، وقال: يا قوم اتّقوا الله لا تدفنوه فهو حيٌّ، وإنّما عرته بهتة... وأنا أسلّمه مفتوح العينين بعد يومين، فقالوا: من أين لك ذلك؟، فقال: إنّ الرّجل إذا مات برُدَ إِبِطُهُ، وهذا قد لمسته فعلمت أنّه حيّ، فجعلوا أيديهم في إبطه فقالوا: الأمر على ما ذكر، فافعلوا كما أمر.
وقام الإسكندريّ إلى المّيّت، فنزع ثيابه ثمّ شدّ له العمائم، وعلّق عليه التّمائم [الحجاب، الرُّقى]، وألعقه الزّيت، وأخلى له البيت، وقال: دعوه ولا تروّعوه... وخرج من عنده وقد شاع الخبر وانتشر بأنّ الميّت قد نُشِرَ... وانثالت علينا الهدايا من كلّ جار، حتّى ورم كيسنا فضّة وتبرًا، وامتلأ رحلنا جبنًا وتمرً، وجهدنا أنْ ننتهز فرصة في الهرب فلم نجدها، حتّى حلّ الأجل المضروب، واستُنجز الوعد المكذوب.
فلمّا ابتسم ثغر الصّبح... جاءه الرّجال والنّساء أزواجًا، وقالوا نحبّ أنْ تُشفي العليل، وتدع القال والقيل، فقال الإسكندريّ: قوموا بنا إليه، ثمّ نزع التّمائم عن يديه، وحلّ العمائم عن جسده، وقال: أنيموه على وجهه، فأُنيم، ثمّ قال: أقيموه على رجليه، فأقيم، ثمّ قال: خلّوا عن يديه، فسقط رأسًا، وطنّ الإسكندريّ بفيه، وقال: هو ميّتٌ كيف أحييه؟ فأخذه الخفّ، وملكته الأكفّ، وصار إذا رُفعت عنه يدٌ وقعت عليه أخرى.
بديع الزّمان الهمذانيّ، المقامات، ص ص98، 99

I ـ الفهم: (6 ن)
1 ـ ضع تقسيمًا للنصّ معتمدًا البنية القصصيّة معيارًا. (1ن)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
2 ـ يقوم النّصّ على مفارقة بين صفات الإسكندريّ وصفات أهل الميّت. وضّح ذلك.(1ن)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
3 ـ استخرج أربعة مظاهر للإضحاك في النّصّ؟(2)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
4 ـ لخّص النّص في خمسة أسطر. (2ن)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . II ـ اللغة: (4 ن) :
1 ـ حدّد الأسلوب الإنشائيّ في الكلمات المسطّرة، والصّيغة أو الأداة والمعنى البلاغيّ المراد (2ن).
1 ـ . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
2 ـ . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . 3 ـ . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . 4 ـ . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـ إيت ببيت شعريّ يتضمّن أمرًا أو نهيًا أو استفهامًا (1ن).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
2 ـ سؤال التّصرّف: قال الإسكندريّ: يا قوم اتّقوا الله. صرّف الفعل مع كلّ الضّمائر. (1ن)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
III ـ إبداء الرّأي(3ن):
هل تعتقد أنّ الهمذانيّ ألّف هذه المقامة من أجل إضحاك النّاس، والتّرفيه عليهم؟
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
IV ـ إنتاج تّحرير: (7 ن)
"لجأ الكتّاب العرب القدامى إلى الفكاهة من أجل الإمتاع والنّقد في آن".
حلّل هذه الفكرة مستندًا إلى الأمثلة والشّواهد ممّا درست.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

mardi 12 octobre 2010

الموشحات الأندلسيّة

الأستاذ عبد الوهاب الشتيوي
معهد الحبيب ثامر ـ صفاقس، الجمهورية التونسيّة

لقد استطاع أهل الأندلس رغم تقليدهم للمشارقة في أدبهم من حيث أساليبه و أغراضه و معانيه أن يحقّقوا شيئا خاصّا بهم يبقى مذكورا على طول الأزمان و يشهد لهم على قدراتهم الإبداعيّة و الإبتكاريّة أيضا ، لقد استطاعوا أب يبتكروا لونا أدبيّا خاصّا بهم يعترف كلّ المؤرّخين أنّهم السبّاقون لمعرفته، ونقصد بذلك " فنّ الموشّحات " و سنلقي بعض الأضواء عليه لنرى أسباب نشأته و مفهومه و خصائصه، ثمّ نرى حظّ ابن زيدون منه بما أنّه موضوع دراستنا الأصليّ .
I ـ نشأة فنّ الموشّح :
إنّنا لو حاولنا أن نغوص بحثًا في هذه المسألة لما خرجنا منها فائزين بجواب كاف ضاف، لذلك سنحاول الاختزال و الإشارة إلى المهمّ لأنّ النقّاد لم يتفقوا حول الأسباب الرئيسيّة و الحقيقيّة لنشأة فنّ الموشّح.
يرى الدّارسون أنّ هناك عوامل كثيرة ساهمت في النّشأة يعود بعضها إلى ما عاشه الشعراء في المشرق و أحسّوا به و لم يستطيعوا انجازه انجازًا تامًّا، ونقصد بذلك أنّهم أصبحوا متضايقين من الأوزان العروضيّة الخليليّة التّقليديّة و قيود القافية و وجدوها تقضي على آفاقهم الإبداعيّة و تحرمهم من لذّة الإبتكار و الاكتشاف، فـ " ـالأمر يتعلّق فعلا ببلوغ الشّعر العربيّ في مشرقه و مغربه حالة من الإستقرار في بنيته لم يعد قابلا معها لأيّ تطوير . و قد حجّر النّقّاد و الرّوّاة أشكاله و حتّى أغراضه و نصّبوا القصيد الجاهلي نموذجًا يحتذى لا يمكن الحياد عنه ". ( محمود طرشونة ، الكتاب المدرسي ، ص 198 ـ س 1997 ) . فأخذ بعضهم ( أبو نواس و بشّار و أبو العتاهية و مسلم بن الوليد خاصّة ) في كسر القاعدة الشّعريّة بإبتكار بعض الأوزان يتحرّرون فيها من تلك القيود الملزمة و ظهر الشّعر المسمّط و المزدوج والمثلّث والمربّع والمخمّس والمزركش ، من ذلك قول أحدهم :
موسى المطرْ غيث بكرْ ثمّ انهمرْ ألوى المررْ
كم اعتسرْ ثمّ ايتسرْ و كم قدرْ ثمّ غفرْ
فتابع الأندلسيّون هذه الثورة التجديديّة من ذلك أنّ ابن عبد ربّه صاحب كتاب " العقد الفريد " أوجد دوائر عروضيّة جديدة تعطي أوزانا جديدة لم يتطرّق إليها الخليل بن أحمد صارت غرام أصحاب الأدب في ذلك العصر و صاروا يجرّبون حظوظهم في نظم ما لم يكن متوفّرا من قبل ، فيقول ابن خلدون في " المقدّمة ": " فلمّا كثر الشّعر في قطرهم و تهّذبت مناحيه و فنونه ، و بلغ فيه التنميق الغاية ، استحدث المتأخّرون منهم فنًّا منه سمّوه بالموشّح " . ( عن طرشونة ، م ، ن ). وأنشؤوا فنّ الموشّح بمساهمة عامل آخر قويّ هو تطوّر الغناء في الأندلس لا سيّما لمّا قدم إليها " زرياب " مبتكر الوتر الرّابع لآلة العود ، و قد اعطى هذا التطوّر المغنّين أكثر حريّة في التعامل مع الأوزان و مع القصائد المغنّاة و صاروا يضيفون إليها بعض المقاطع العامّية خاصّة حتّى يسهل غناؤها و يخفّ وزنها ، و هذا الرّأي يؤكّده احسان عبّاس فيقول : " و الحقيقة التي تبقى ثابتة هي صلة المشّح بالغناء لأنّ الغناء هو الذي سهّل على الوشّاح ركوب الأعاريض المهملة ، إذ الغناء هو الذي يحدث التّناسب المفقود بالمدّ و القصر و الزّيادة والخطف ، و قد حدّثنا ابن سناء الملك نفسه أنّ بعض الموشّحات لا تتمّ نغمتها إلاّ بزيادة نغميّة فيها ". (225 ) . كما يؤكّده جودت الرّكابي فيقول : " ممّا لاشكّ فيه أنّ لحياة اللّهو و المجون و لإنتشار السّمر و الغناء في الأندلس أثراً في اختراع الموشّح و ظهوره في تلك الأرض ذات الطّبيعة الوارفة الظّلال ، فالشعر الخفيف كما نعلم مادّة الغناء ، فإذا كان انتشار الغناء في الأندلس قد استدعى ظهور الموشّح ، فإنّه أيضا قد حدّد له وزنه و حرّره من قيود الشّعر التقليدي و قوالب الأوزان المعروفة و عبوديّة القافية الوحيدة . فالنّهضة الغنائيّة إذن كانت من دواعي ظهور هذا الفنّ " . ( ص 258 ) . و قد أثبتت دراسات الصّلة القويّة بين الموشّح و ضرب من الغناء ظهر في جنوب فرنسا القريب من الأندلس يسمّى " التّروبادور " حيث أنّ هناك تشابهًا في الأغراض ( الغزل و الطّبيعة ) والأوزان و تعدّد القوافي و ترتيب أجزاء القصيدة ، و نجد في الموشّح الألفاظ العاميّة لا سيّما في الخرجة و هو ما يقوّي رأي القائلين بأنّه نشأ تأثّرا بتطوّر الغناء .
و لكنّ د / شوقي ضيف رفض هذا الرّأي و بيّن أنّ الموشّحات كانت تطويرًا لمحاولات الشّعراء المشارقة تطوير الشّعر إذ اخترعوا التنويع في القوافي و الجمع بين البحور ، و هذا الرأي فيه تعصّب لأنّ ضيف أنكر في كتابه أيّ فضل للأندلسيّين و جعل فنونهم و آدابهم محاكاة للمشرق ، فيقول : " و لعلّ في هذا ما يشير إلى في صراحة إلى أنّ الموشّحات فنّ أندلسيّ محليّ و إن كنّا لا نؤمن بأنّها نشأت من المزاوجة بين الشّعر العربي و ضروب من الأغاني الشّعبيّة الأندلسيّة [..] إنّما نؤمن بأنّها تطوّر تمّ هناك للمسمّطات و المخمّسات التي عرفت منذ العصر العبّاسي الأوّل " . ( ص 452 ) .
و يؤكّد د / محمود طرشونة على أهميّة العامل الاجتماعي إذ أنّ الأندلس بلد مفتوح على كلّ الأعراق متعدّد الأجناس ، الثقافة فيه قابلة للتنّوع و استيعاب الآخر و التفتّح عليه ، يؤثّر هذا في ذاك و يتأثّر به ، فظهر فنّ يعبّر عن هذا الإطار الاجتماعي المخصوص الذي يسعى فيه أهله إلى اثبات تميّزهم و تأكيد شخصيّتهم الحضاريّة الفريدة ، خاصّة إذا ما أضفنا العاملين البيئي و الحضاري اللّذين يقول عنهما طرشونة:" فالرياض الزاهية ، و البساتين المثمرة ، و اعتدال الجوّ ، و كثرة الجداول و الأنهار و الأشجار والإخضرار ، كلّها تمثّل إطارًا ملائمًا للإبتكار . و في مثل هذا الإطار كانت تعقد مجالس الطّرب و الأنس التي ساهمت بدورها في ابتداع فنّ التّوشيح لما لهذا الفنّ من صلة بالغناء ". ( م ، س ، ص 201 ـ 202 ) .
و تأكيدًا للبعد الاجتماعي و الحضاري يضيف احسان عبّاس سببًا آخر يراه وجيهًا لبيان أسباب نشأة الموشّح وهو أنّ بعضًا من الشّعراء المدّاحين أراد أن يجدّد في الشّعر التكسّبي و يتميّز عن غيره من شعراء المدح و يقدّم للممدوح فنًّا قوليًّا جديدًا يسحر به الألباب و به يسيطر على الآذان .
و بناءً عليه يكون الموشّح حسب احسان عبّاس : " ثورة على طبيعة القصيدة فهو حركة تجديديّة ، وهو أيضًا رجعة إلى الغنائيّة من وجهة أخرى ، أي هو زخرف حضاريّ قد ينطوي على كلّ مقوّمات السّطحيّة الجذّابة و التّرف المسترخي " . ( ص 217 ) .
II ـ مبدع فنّ الموشّح :
لئن أجمع أغلب الدّارسين ـ إلاّ من شذّ منهم ـ على أنّ فنّ الوشّح أندلسيّ أصيل نشأ بها و لا علاقة للمشارقة به ، فإنّهم اختلفوا في تحديد اسم مخترعه الأوّل ، و نجد في الصّدد روايتين مختلفتين تحاولان البتّ في المسألة ، و ترد الرّواية الأولى في ذخيرة ابن بسّام و تقول : " و أوّل من صنع أوزان هذه الموشّحات بأفقنا و اختراع طريقتها ـ فيما بلغني ـ محمّد بن محمود ( حمّود ) القبْري الضّرير " . ( ق 1 ، م 2 ، ص 1 ) ، و ترد الرّواية الثّانية في مقدّمة ابن خلدون و تقول : " و كان المخترع لها بجزيرة الأندلس مقدّم بن معافى القبْري من شعراء الأمير عبد الله بن محمّد المرواني و أخذ عته أحمد بن عبد ربّه صاحب كتاب العقد و لم يظهر لهما مع المتأخّرين ذكر و كسدت موشّحاتهما فكان أوّل من برع في هذا الشّأن عبادة القزّاز شاعر المعتصم بن صمادح صاحب المريّة .. و زعموا أنّه لم يسبقه وشّاح من معاصرين الذين كانوا في زمن الطّوائف " .( عن الرّكابي ، ص 287 ـ 288 ) .و قد أشار الرّكابي أنّ ابن خلدون قد أخطأ حين ذكر عبادة القزّاز ، و الصّواب هو عبادة بن ماء السّماء ، لكنّ احسان عبّاس يثبته بقوله : " وقد قدّم المؤرّخون عبادة القزّاز على سائر الوشّاحين في عصر الطّوائف و كان عبادة هذا شاعر المعتصم ابن صمادح ، و روي عن أبي بكر ابن زهر الوشّاح أنّه قال : كلّ الوشّاحين عيال على عبادة القزّاز ". ( ص 232 ) ، و السّبب بالنسبة إليه أنّ موشّحات ابن ماء السّماء لم يصلنا منها إلاّ واحدة مثبتة لدى المؤرّخين ، و بذلك يكون فضل التّطوير بالفعل لعبادة القزّاز .
إذن فهناك ذكر لشخصين يرجع فضل ابتكار الموشّح لهما ، و هما :محمّد بن محمود القبْري ، و مقدّم بن معافى القبْري و قد ظنّ بعض الدّارسين لفترة من الزّمن أنّهما اسمان لمسمّى واحد لكنّهم تراجعوا عن هذا الظنّ بعد أن ظهرت دراسات تثبث أنّهما فعلاً شاعران أندلسيّان معروفان في عصرهما . و لكن مع ذلك لا يحلّ اشكال مبتكر الموشّحات بإعتبار أنّه لا يمكن لشخص واحد أن يخترع فنًّا جديدًا بمفرده وبطريقة فجئيّة ، و الأقرب إلى المنطق و الحقيقة التّاريخيّة أنّ الموشّح ظهر في البداية محاولات عاديّة قام بها بعض الشّعراء و المغنّنين للخروج من دائرة القديم و تقديم الجديد ، ثمّ بدأت تتركّز شيئا فشيئا حين انتبه النّاس إلى جماليّتها و اعترفوا بها و انتهى عهد رفضها ، أي أنّ ما وصلنا من الموشّحات هو النموذج الأرقى لها و لا يمكن لأحد أن يبتكر فنًّا ما و يكون في صورته الرّاقية ، فكلّ فنّ يمرّ بمرحلة النشأة ثمّ مرحلة التّأسيس لنصل إلى مرحلة التّركيز .
و أهمّ الوشّاحين : أبو بكر عبادة بن ماء السّماء ، و عبادة القزّاز ، و و ابن اللُّبانة ، و الأعمى التُّطيلي ، و ابن بقيّ ، و ابن باجه ، و أبو بكر بن زهر ، و ابن سهل ، و لسان الدّين بن الخطيب .. (انظر كتاب الرّكابي ص 290 و عبّاس ص 233 ) .
III ـ تعريف الموشّح :
كما وجدت الإختلافات حول نشأة الموشّح و اسم مخترعه الأوّل ، و جدت اختلافات حول تعريفه، فرأى بعضهم أنّه مشتقّ من الوشاح و هو وشاح المرأة المزيّن المزركش المرصّع بالجوهر و اللّؤلؤ و الذي تقول عنه المعاجم : " كرسان لؤلؤ و جوهر منظومان مخالف بينهما معطوف أحدهما على الآخر " . ( عن عبّاس ، ص 220 ) ، و يعرّفه ابن سناء الملك ( شاعر مصري 550 هـ ـ 608 هـ ) مؤلّف أوّل كتاب متكامل عن فنّ الموشّحات و هو " دار الطّراز " ، فيقول : " الموشّح كلام منظوم على وزن مخصوص ، و هو يتألّف في الأكثر من من ستّة أقفال و خمسة أبيات و يقال له التّام ، و في الأقلّ من خمسة أقفال و خمسة أبيات و يقال له الأقرع ، فالتّام ما ابتدئ فيه بالأقفال ، و الأقرع ما ابتدئ فيه بالأبيات " . ( عن الرّكاب ، ص 293 ) . فهو إذن قريب جدًّا من الشّعر لأنّه فنّ ايقاعيّ يحتوي أوزانًا تتكوّن من بحور عروضيّة ، و قوافي ، و يفترق عنه من حيث أنّ فيه تنوّعًا في الأوزان و القوافي و هيكل النصّ وتوزيع الكلام على الورق ، و هو كما أراد له الأندلسيّون يشدّ المشرق العربي إلى مغربه و يتجلّى حضور المشرق فيه بما أنّه فنّ شعريّ ، و يتجلّى حضور المغرب فيه بما أنّه فنّ ابتكر هناك .
IV ـ عناصر الموشّح :
يتكوّن الموشّح في الأصل من عنصرين يسمّى الأوّل " القفل " و يسمّى الثّاني " الغصن " و يسمّى هذا الموشّح تامًّا ، أمّا إذا بدأ مباشرةً بالعنصر الثّاني فإنّه يسمّى " أقرع" ، و في الموشّح التّام نجد ستّة أقفال تتوسّطها خمسة أغصان ، و قد يزيد الوشّاح أو ينقص من هذا العدد ، و يسمّى جمع القفل بالغصن " دورًا " أو " بيتًا " ممّا يعطينا خمسة أدوار ( أو أبيات ) في الموشّح التّام و قفلا أخير يسمّى " الخرجة " ، و هي آخر ما يبقى في ذهن السّامع فإمّا أن تترك انطباعًا جيّدًا أو أن تسقط قيمة صاحبها ، مثل الخاتمة في الشّعر ، و عنها يقول : " و الخرجة هي ابراز الموشّح و ملحه و سكّره ، و مسكه و عنبره ، و هي العاقبة وينبغي أن تكون حميدةً " .( عن عبّاس ، ص 236 ) ، بل و يشترط أن يضبطها الوشّاح قبل قول الموشّح والبحث في ألفاظه و أوزانه ، و يجب أن تكون عامّيّةً ظريفة تترسّخ في الأذهان ، أمّا إذا كانت فصيحة فإنّها تخرج بالقول من دائرة الموشّح إلاّ إذا كان في المدح فالفصيح منه مقبول و يُذكر فيها اسم الممدوح .
و نورد مثالاً لأبي بكر محمّد بن زهر الأشبيلي :
سلّمِ الأمر للقضا فهو للنّفس أنفعُ
و اغتنمْ حين أقبلا
وجه بدرٍ تهلَّلا
لا تقلْ بالهمومِ لا
كلّ ما فات و انقضى ليس بالحزنِ يرجعُ
و اصطبحْ بابنة الكرومِ
من يديْ شادنٍ رخيمِ
حين يفترُّ عن نظيمِ
فيه برقٌ قد أومضا و رحيق مشعشعُ
V ـ أوزان الموشّح :
تقسّم أوزان الموشّحات إلى قسمين اثنين :
أ ـ قسم يرد على الأوزان الشّعريّة العروضيّة المعروفة ، و لكنّ الوشّاحين يستنقصون قيمته و يرون أصحابه بعيدين عن الإجادة ، منصرفين إلىالتّقليد.
ب ـ قسم هو ما خالف الأوزان التقليديّة المعروفة للشّعر العربي ، و ورد على أوزان مستحدثة لا قواعدلها و لا ضوابط ، أي أنّ الوشّاح يستحدث وزنه أثناء الإنشاد و الغناء ، و عنه يقول ابن سناء الملك : " و القسم الثّاني من الموشّحات هو ما لا مدخل لشيء منه من أوزان العرب . و هذا القسم منها هو الكثير ، و الجمّ الغفير [..] و كنت أردت أن أقيم لها عروضًا يكون دفترًا لحسابها ، و ميزانًا لأوتادها و أسبابها فعزّ ذلك و أوعز [..] و ما لها عروض إلاّ التلحين " . ( عن الرّكابي ، ص 301 ) .
و لم يرفض الدّارسون هذه الحريّة الإيقاعيّة بل برّروها انطلاقًا من أنّ الموشّح غناء و موسيقى يخضعان أوّلا لقانون الحريّة و التجديد ، فيقول جودت الرّكابي : " يتبيّن ممّا تقدّم أنّ العرب إنّما اخترعوا الموشّحات من أجل الغناء ، فيجدر بنا إذن ألاّ نطلب من الشّاعر الوشّاح أن يتقيّد بوزن قديم معروف تقيّدًا شديدًا . إنّ الذي يميّز هذا الفنّ و يكسبه جمالاً ليس العروض المقنّن بل حريّة الوزن " . ( ص 302 ) .
و يرى جودت الرّكابي أنّ العرب لم يبتكروا للموشّح أوزانًا مثل أوزان الشّعر المعروفة بالبحور والتفعيلات لا لعجزهم عن صنع ذلك ، و إنّما لتمكين المبدعين من الحريّة الإبداعيّة ، و قد لا نوافق على هذا الرأي لأنّ الشّعر أيضًا فنّ يقوم على الحريّة و الشّاعر يطلب الحريّة بإلحاح حتّى يبدع كما يشاء و مع ذلك وضعوا له قوانين الزاميّة و شروطًا قاسية ضاق بها الشّعراء ذرعًا فثاروا عليها في مختلف عصور الإبداع .
VI ـ أغراض الموشّح :
وردت الموشّحات الأندلسيّة في أغراض الشّعر المتداولة مثل الغزل و المدح و الفخر و الهجاء و الرّثاء لأنّها في الحقيقة فنّ قوليّ قريب جدًّا من الشّعر و قد أخذت منه بعض خصائصه في الوقت نفسه الذي افترقت فيه عنه ، و قد احتوت الكتب التي اعتنت بالموشّحات و على رأسها كتاب " دار الطّراز " لإبن سناء الملك أمثلة عديدة لتطرّقها لكلّ هذه الأغراض ، و عن ذلك يقول هذا الكاتب : " الموشّحات يُعمل فيها ما يعمل في أنواع الشّعر من الغزل و المدح و الرّثاء و الهجو و المجون و الزّهد " . ( عن الرّكابي ، ص 302 ) .و لكن بما أنّ الموشّحات قد تأثّرت في نشأتها بفنّ الغناء ـ كما بيّنّا سابقًا ـ و ابتكرت لفنّ الغناء و صارت فنًّا يلقى في مجالس الطّرب و اللّهو و المجون ، فإنّنا نجد أنّ أغلب أغراضها كانت تدور في هذا الفلك مثل الغزل و وصف مجالس الشّراب و اللّهو و الغناء و الرّقص و وصف القصور و الطّبيعة الأندلسيّة الغنّاء ، لا سيّما و أنّ قصور الأمراء كانت ملتقى هذه المجالس التي تفشّى وجودها ، مثل قول ابن زهر :
روض أظلّه دوحٌ عليه أنيقْ مـورق الأفـنـان
و الماء يجري و عائمٌ و غريقْ من جنى الرّيحان
و ربّما وصفت مواضيع الموشّحات بالتّافهة لأنّها أكثرت من التعلّق بهذه الأغراض و المعاني و ابتعدت عن الجديّة و الإلتزام و الإتّزان التي عرف بها الشّعر العربي القديم ، و لعلّ الأندلسييّن وجدوا فيها ـ وهي بهذا الشّكل ـ دواءً لنكباتهم السّياسيّة و الإجتماعيّة ، و مثّلت لهم عزاءً ينسيهم ما رزئوا به من محن ومصائب .
VII ـ الموشّح في ديوان ابن زيدون :
لقد وجدنا خلافًا في هذه المسألة بين الدّارسين ، حيث أنّ بعضهم اعتبر أنّ ابن زيدون طرق باب هذا الفنّ و أنتج فيه نصّين اثنين شهيرين مثبتين في الدّيوان ، و أنكر عليه بعضهم ذلك معتبرًا أنّ هذين النصّين ما هما إلاّ من الشّعر المسمّط الشّبيه بالموشّحات و الذي يدّعي بعض الدّارسين أنّ فنّ التّوشيح نشأ نتيجة تطوير هذا النّوع من الشّعر ، و منهم شوقي ضيف الذي يقول : " إنّما نؤمن بأنّها ( أي الموشّحات ) تطوّر تمّ هناك للمسمّطات و المخمّسات التي عرفت منذ العصر العبّاسي الأوّل " .( ص 452 ) ، و أثبت كامل الكيلاني هذين النّصّين في باب التّوشيح إذ كتب في رأس الصّفحة عبارة " موشّح أقرع " ، و نرى أنّ اسقاط هذين النصّين من فنّ التّوشيح فيه بعض التّعسّف و الظّلم لأنّنا نجد فيهما ما يتوفّر في الموشّح عادةً من عناصر و هي :
أ ـ الأقفال .
ب ـ الأغصان .
ج ـ الأدوار أو الأبيات .
د ـ الخرجة .
و موشّحا ابن زيدون الإثنان من نوع الأقرع لأنّه بدأهما بالأغصان عوض الأقفال ، و قد تنوّعت الخصائص الإيقاعيّة التي تبثت بالنسبة إلينا انتماءه إلى فنّ التّوشيح منها مثلا في نصّ " سقى الغيث أطلال الأحبّة " :
أ ـ المحافظة على عدد أسطر الغصن و هو 3 أسطر .
ب ـ المحافظة على عناصر الدّور و هي قفل و غصن ، رغم أنّ ابن زيدون يبدأ بالغصن عوض القفل ، فيكون موشّحه كما أشرنا إلى ذلك سابقًا من نوع " الأقرع " .
ج ـ تنوّع قوافي الأغصان إذ نجد : الميم ( المفتوحة ) ، و العين ، و الرّاء ، و الميم ( المكسورة ) ، والحاء ، و الجيم ، و الفاء ، و الهاء المكسورة ، و الهاء المضمومة .
د ـ ختم النصّ بالخرجة .
هـ ـ الإلتزام بالغرض الرّئيسيّ للموشّحات و هو الغزل و الحنين إلى حبيب الماضي و وصف الطبيعة و مجالس الخمر و اللّهو .
و قد أثبت ابن زيدون حريّته في موشّحيه حيث أنّه التزم ببحر واحد و هو الطّويل ( في الموشّحين ) على عكس الوشّاحين المشهورين الذين يفضّلون تنويع البحور في الموشّح الواحد ، كما لم يلتزم بعدد الأدوار النّموذجي و هو خمسة أدوار بل تجاوز هذا العدد بكثير ، فبلغ عشرة أدوار في الموّشح الأوّل و بلغ العشرين دورًا في الموشّح الثّاني " تنشّق من عرف الصّبا ما تنشّقا " .
أمّا بالنسبة إلى المعاني فإنّ ابن زيدون ركّز في هذين الموشّحين على حنينه إلى طرفين هامّين جدًّا في حياته رحل عنهما غصبًا و طرد من حضرتهما ظلمًا ، وظلّ على امتداد فترة غيابه عنهما يذكرهما بقلب كلّه شوق و أسى و عين تدمع لذكرهما و نفس تطارد خيالهما في الأحلام إنّهما الحبيبة ـ ربّما ولاّدة و ربّما أيّة حبيبة كانت و قد لا تكون واقعيّة ـ و وطنه قرطبة التي لم تستطع لا أشبيليّة التي وجد فيها الحظوة الكبيرة ، و لا بطليوس أن تنسياه حبّها العميق


* ملاحظة:
هذه الدّراسة من جزء من كتاب نشرناه بصفاقس سنة 2005 بعنوان "غزل ابن زيدون، عمق الأداء وجودة البناء".

samedi 3 juillet 2010

الدراما التراجيدية في مسرحية "السلطان الحائر"

عبد الوهاب الشتيوي

معهد الحبيب ثامر ـ صفاقس

الفاتحة: "قد نهز رؤوسنا طربًا وإعجابًا بما يقوله البطل وبما يفعله، لكن
ذلك لا يعني أنْ نسمح له بالتحكم في مشاعرنا وتوجيه أفكارنا".

I. رؤية
الحكيم للدراما التراجيدية

يعتقد توفيف الحكيم أنّه لا بدّ من التوفيق بين
شروط الدراما التراجيدية اليونانيّة، وخصائص الأدب العربي، ومكونات الذائقة
العربية، وذلك من أجل تأصيل الفنّ المسرحيّ في الثّقافة العربيّة ـ وهو في الحقيقة
فنّ دخيل لم يظهر في الثّقافة العربيّة إلاّ في القرن التّاسع عشر ـ ولا بدّ
بالنّسبة إلى الحكيم من العودة إلى الرّوافد الدّراميّة التّراجيديّة اليونانيّة
لتحقيق هذا الهدف، لذلك نجده يقول في مقدّمة "الملك أوديب": "أحاول أنا اليوم أنْ
أُرسي هذا الفنّ الجديد في آدابنا العربيّة على قواعده اليونانيّة، وهو العمل الذي
كان يجب أنْ يُصنع منذ قرون".

لكنّ ذلك لا يعني أنّ الحكيم سيبقى أسير
النّظرة اليونانيّة إلى الإنسان وقضاياه ومشاغله وعلاقته بمكوّنات الحياة والوجود،
أو تبقى مصادر مسرحيّاته يونانيّة تبحث فقط في القضايا الماورائيّة، وعلاقة الإنسان
بالآلهة والقوى الغيبيّة عامّة، بل إنّ الحكيم وإنْ كان حريصًا على الإبقاء على
شروط الدّراما التّراجيديّة اليونانيّة، فإنّه استطاع أنْ يتخلّص في بعض مسرحيّاته
ـ السياسيّة والاجتماعيّة خاصّة ـ من القضايا التي كانت تُعالج في الدّراما
اليونانيّة، وارتبط بقضايا الإنسان المعاصرة، مثلما هو الحال في مسرحيّة "السلطان
الحائر" التي جعل موضوعها متّصلاً براهن الإنسان العربيّ المعاصر في علاقته
بالسّياسة من جهة، وبحقوقه الإنسانيّة من جهة أخرى، وتطرّق فيها إلى علاقة السّلطة
والمواطن بالقانون والواجب والحقّ والحريّة.

فالحكيم إذنْ لا يتحمّس إلى
ترجمة التّراث الدّراميّ التّراجيديّ اليوناننيّ بدعوى تأصيل المسرح في البيئة
العربيّة، بل إنّه يتحمّس فقط إلى الإبقاء على العناصر الدّراميّة التّراجيديّة
اليونانيّة، ثمّ العمل على بلورتها وفق القضايا العربيّة المعاصرة، ووفق المرحلة
التّاريخيّة التي يمرّ بها العرب وتعيشها ثقافتهم، وهو ما يعني أنّ التّرجمة
والتّقليد والمحاكاة لنْ يمكنها أنْ تنفع المسرح العربيّ، بل إنّها ستؤثّر سلبًا في
علاقة الإنسان العربيّ المسلم بالمسرح، ذلك أنّ المسرح اليونانيّ يعالج مثلاً
الصّراع بين الإنسان والآلهة، وهو أمر مرفوض في الدّيانة الإسلاميّة، لذلك فالحكيم
أخرج المسرح ـ من خلال بعض مسرحيّاته ـ من صراع الإنسان مع القوى الغيبيّة القاهرة،
إلى صراع الإنسان الفرد مع القضايا الاجتماعيّة والنّظم السياسيّة، والصّراع بين
الغريزة الإنسانيّة الجيّاشة إلى التّملّك والأنانيّة والسّيطرة، والمبادئ
الإنسانيّة الخالدة والقيم العليا التي تبحث عن العدل وتنشر الخير والسّلام.

ومن أجل ذلك أصبح الصّراع في الدّراما التّراجيديّة المعاصرة صراعًا بين
الإنسان وأخيه الإنسان، ولم يعد البطل مصارعًا خارقًا ذا خصائص بشريّة/إلهيّة، يخوض
صراعًا خارقًا، وينتهي صراعه بالهزيمة النّكراء والفشل الذّريع نظرًا لضعفه
الإنساني الكامن فيه، وقدراته المحدودة، بل أصبح شخصًا نبيلاً ورجلاً شهمًا كريمًا
يمتلك كلّ الصّفات الإنسانيّة العظيمة، يخوض صراعًا مع قوى الظّلم والقهر
والاستغلال، ومع جبلّة الإنسان الشرّيرة أحيانًا، ويسعى إلى إقامة العدل في الكون،
وإنْ خالف مصالحه الشّخصيّة، ومصالح طبقته الاجتماعيّة والسّياسيّة.

II.
شروط الدّراما التّراجيديّة التّقليديّة

1. التّراجيديا مسرحيّة ذات موضوع
جادّ، لذلك أقصى أرسطو الملهاة (الكوميديا) من تصنيفه للشّعر والمسرح.

2.
حكاية المسرحيّة ذت طابع حزين.

3. سموّ البطل في أخلاقه وأفعاله عن
الآخرين، والتزامه بمبدئه مهما تتغيرْ الظّروف، أو يحتد الصّراع.

4. تصادم
إرادته مع إرادة الآخرين.

5. تميّز البطل وتفرّده وتطرّفه أحيانًا صفات
تنتج الصّراع.

6. للمسرحيّة التّراجيديّة طول معلوم، فلا تطول لتصبح ملحمة،
ولا تقصر لتصبح قصيدة، لذلك فكاتب التّراجيديا كثيرًا ما يتجنّب التّفصيلات
والتّهيدات.

7. التّطهير هو الغاية الأولى للتّراجيديا، إذ تخلّص الإنسان
من مشاعر الخوف والضّعف والحزن والانكسار القابعة في نفسه.

8. الوحداث
الثّلاث:

أ‌. الحدث: فكرة واحدة تُعالجها الدّراما، ولا تشغل المتفرّج
بقضايا أخرى سواءً كانت مهمّة أو عاديّة.

ب‌. الزّمان: لا يتجاوز أربعًا
وعشرين ساعة (دورة شمس)، فالمتفرّج اليونانيّ يجعل المسرحيّة دومًا محاكاة للواقع.

ت‌. المكان: لا يتغيّر المكان إلاّ بنسبة محدودة، وإنْ تغيّر فإنّه لا
يفارق المدينة الواحدة.

III. بنية المسرحيّة التّراجيديّة (من خلال
"السّلطان الحائر)

1. المقدمة

الحكم بالإعدام على متّهم ذكر أنّ
السّلطان ما هو إلاّ عبد مملوك لم يعتقه السّلطان الرّاحل قبل موته.

2.
الفعل الصاعد

إقرار السّلطان والوزير والقاضي بهذه الحقيقة، والعفو عن
المتّهم، والبحث عن حلّ لعتق السّلطان، واختيار السّلطان تحكيم القانون، ورفض مبدإ
السّيف والقوّة.

3. الذّروة

بيع السّلطان في مزاد علنيّ ورفض
المشتري (الغانية) التّوقيع على حجّة العتق، أيْ وقوع السّلطان في أزمة الملكيّة
الجديدة، رغم مجادلة القاضي القانونيّة، وتهديدات الوزير.

4. الفعل الهابط

موافقة السّلطان على قضاء اللّيلة مع الغانية في بيتها.

5. الحلّ

طلوع الفجر واستعادة السّلطان حريّته وملكه، واستعادة الغانية سمعتها بين
النّاس.

IV. خصائص البطل التراجيدي التقليدي

ـ يضحي في سبيل
الإنسانية ويدافع عن القيم المثلى.

ـ يتجاوز الرغبات الذاتية الضيقة،
والنزوات الغريزية.

ـ منزه عن الدّنايا، بعيد عن الرذيلة.

ـ صاحب
فطرة نقية، وغريزة صافية.

ـ يجسد أحلامنا وطموحاتنا، ويعبر عن مشاعرنا
وأفكارنا.

ـ يلمّ به الشقاء والألم.

ـ يبعث مصيره على التعاطف
والإشفاق والرحمة.

ـ ينتمي إلى النبلاء وعليّة القوم، أو من الأبطال
الخارقين.

ـ يمتلك صفات نفسية واجتماعية وبدنية تجعله من العظماء.

ـ يخلصنا من مشاعر الخوف.

ـ يعلّم الفضيلة ("راسين"، وهو مسرحي
كلاسيكي).

ـ يرسخ الحكمة.

ـ له قيمة معرفية واجتماعية وجمالية
("ليسينغ"، مسرحي من عصر التنوير).

ـ يملك القوة، ويمارس العنف، لكنه يتميز
بالرقة والرحمة.

ـ عنيف مع الأعداء والأشرار، رحيم بالضعفاء والأخيار.

ـ يُقبل على الأفعال المؤذية والمؤلمة والخطرة.

ـ يقبل التحدي
ويصارع الأقوياء بجرأة وشجاعة وحرية اختيار.

ـ خصم عنيد يمتثل إلى صوت
الحقّ: "الشخص الأعظم". لوكاتش

ـ يضحي بنفسه من أجل القيم الخالدة والمثل
العليا.

ـ يبحث عن ترسيخ قيم أصيلة في مجتمع متدهور (لوكاتش).

ـ
يُؤلم لكنه يُعجب ويمتع.

ـ بكاؤه وتألمه نابعان من الثراء الروحي الموجود
في أعماقه.

ـ لا يخجل من ضعفه وهزيمته.

ـ يبكي وينكسر ويظل شجاعًا
ينظر إلى الأمام، ويسعى إلى الشرف والمجد والعلا، وتأدية الواجبات.

ـ
مأساته عظيمة، إنسانية المجال، جماعية عظيمة.

ـ هزيمته ناتجة عن سطوة القوى
التي يصارعها وجبروتها.

ï إنّ كلّ هذه الصفات الخارقة تفسر لنا سرّ الإعجاب
بالأبطال التراجيديين وخلودهم، سواءً كانوا يونانيين قدامى ييصارعون القوى الغيبية،
أو عالميين معاصرين يصارعون القوى المنظورة، مثل العمال الذين يصارعون الإقطاعيين
والرأسماليين.

Ã"إنّ "الجميل"أساسٌ رئيس يرتكز عليه البطل التراجيدي في
سلوكه وأفعاله، وغاية نبيلة رفيعة، يطمح ـ بتوق ولهفة ـ إلى تجسيدها عمليًّا، بكل
ما أوتي من قوّة وجرأة وعزيمة وإصرار، ومهما يواجه في سبيلها من كوارث وملمّات
وأخطار.

à إنّ كلّ هذه الصّفات التي اشترط المسرح التّراجيديّ اليونانيّ
توفّرها في البطل، حافظ عليها توفيق الحكيم في بطل مسرحيّته "السّلطان الحائر"،
وذلك من أجل أنْ يُحافظ على روح التّراجيديا اليونانيّة، ويحقّق وظيفة الإشفاق
والخوف، ويؤدّي مغزى التّصعيد، فهذا السّلطان نبيل من عليّة القوم، مرفّه لا يحتاج
إلى الكذب والخداع والتّزييف والانتهازيّة من أجل الحصول على المال، يمتلك صفات
إنسانيّة وقيمًا أصيلة وممبادئ عليا، تمكّنه منْ أنْ يكون مثال الإنسان الشّريف
الذي يسعى إلى إسعاد غيره، والتّنازل عن حقوقه الفرديّة إنْ تعارضت مع حقوق
الآخرين، وقيم المججتمع، وهي مثال الحاكم العادل الذي لا يأبى تجاوز القانون، أو
ظلم الآخرين، يُنصف المظلوم، وينتصر للحقّ والعدل، لا يساير الأشرار والمفسدين في
مشاريعهم الانتهازيّة، ويعارض أصحاب النّفوذ في الدّولة ممثّلين في الوزير والقاضي،
بفرض إقامة محاكمة عادلة للمتّهم المحكوم عليه بالإعدام، وإعادة النّظر في قضيّته
من زاوية قانونيّة حقوقيّة، ويرضخ لمشيئة القانون بالإقرار بوضعيّته المدنيّة إذ
قبل اعتباره مملوكًا غير معتوق من قِبل السّلطان الرّاحل، وقبول بيعه في المزاد
العلنيّ، وانتظار مصيره المرتبط بشجاعة المشتري الذي يمكن أنْ يقبل عتقه، أو
الإبقاء على وضعه المملوكيّ، ثمّ يقبل أنْ يكون مملوكًا لغانية سيّئة السّمعة في
مجتمعها، بل إنّه يغيّر موقفها منه ويصدّق عفافها، ويدفع النّاس إلى تغيير موقفهم
منها، ويعطيها صورة جديدة مشرقة.

وحين نعود إلى مسألة الإشفاق والخوف،
ومغزى التّصعيد، نجد أنّ هذا البطل النّبيل الشّجاع يكون محلّ إشفاق الجمهور حين
يقع في الورطة، وحين تتأزّم وضعيّته بإعلامه بحقيقة وضعه المدنيّ، وحين يعرض للبيع،
وحين يباع ولا يُعتق، وحين يصبح مملوكًا للغانية، ويبيت معها اللّيلة، أيْ إنّ
مأساته تجعله محلّ إشفاق وتعاطف، ثمّ يستبدّ الخوف بالمتفرّج حين يتخيّل مصيرًا
مفجعًا لهذا البطل، وذلك بفقدانه عرشه، وعجزه عن استعادة حقوقه المدنيّة، وتحوّله
من سلطان ذي مال وجاه ومكانة عليا، إلى عبد مملوك لغانية سيّئة السّمعة، وتحوّله من
حاكم ذي سلطة وأمر ونهي، إلى محكوم لا حول له ولا قوّة، بل إنّه يتحوّل من ذات
بشريّة إلى سلعة لا قيمة لها في بيت المال وخزينة الدّولة، ومن إنسان يملك ويبيع
ويشتري إلى بضاعة تباع في مزاد علنيّ يمكن أنْ يشتريها سفلة القوم، ويتعاظم الخوف
أكثر فأكثر حين تتعمّق العقدة فيتخيّل المتفرّج نفسه في ذلك المصير الذي قد يؤول
إليه السّلطان، ثمّ يكون التّصعيد حين تنتهي المسرحيّة بحلّ العقدة، وتزول الأزمة
ويستعيد السّلطان مكانته، فيبقى في الذّهن انتصار الخير على الشّرّ، وتفوّق الجانب
النّبيل في الإنسان على الجانب الخبيث فيه، وتُسعاد هيبة القيم الأصيلة، والمثل
العليا، ويكون ذلك البطل التّراجيديّ مثال "البطل الذي يسعى إلى الحفاظ على القيم
الأصيلة في مجتمع متدهور" مثلما يقول "جورج لوكاتش" في معرض حديثه عن الأبطال في
الرّواية الحديثة.

V. البناء الفنّيّ للمسرحيّة

1. الحبكة
المسرحيّة

الحبكة هي البناء المسرحيّ الذي يُرتّب الأحداث وفق منطق خاصّ من
البداية إلى النّهاية المفجعة، مرورًا بالعقدة والبحث عن الحلول، ويوزّع الفضاء
ويُحدّد الشّخصيّات وما تنطق به من حوار، بحيث يصل المؤلّف إلى غايته وهي إثارة
المتقبّل عاطفيًّا وفكريًّا، وأداء مقاصدة التّعليميّة والتّربويّة والنّقديّة.
وأهمّ مقوّم للحبكة مقولة الوحداث الثّلاث، وهي وحدة الموضوع (الحدث ـ الفعل) ووحدة
الزّمان ووحدة المكان، ومقولة فصل التّراجيديا عن الكوميديا (فصل المأساة عن
الملهاة) حيث لا توجد المشاهد المضحكة والمسلّية، بل لا توجد إلاّ المشاهد التي
تكثّف البعد المأسويّ، فتكثّف الإشفاق والخوف، ووحدة الموضوع هي العمود الفقري لكلّ
عمل مسرحيّ تراجيديّ، والموضوع في "السّلطان الحائر" يتمثّل في ذلك الصّراع الدّائر
بين القانون والسّيف، من خلال صراع السّلطان مع الوزير والقاضي، أيْ إنّ الموضوع
هنا واحد يتعلّق بوضعيّة السّلطان القانونيّة والمدنيّة، وكيفيّة تخليصه من هذه
الوضعيّة.

وتتطلّب الحبكة والحركة عقدة هي جوهر الحدث التّراجيديّ، وهي
"مجموع العوائق الدّاخليّة أو الخارجيّة التي تعترض الشّخصيّات الرّئيسيّة". (جاك
شارر)، وتؤدّي العقدة إلى انقلاب الأحداث والأحوال بظهور حدث مفاجئ غير متوقّع،
وهذا الحدث في "السّلطان الحائر" تمثّل في اكتشاف السّلطان ومنْ حوله من جهاز
الدّولة والشّعب وضعيّته المدنيّه بكونه مملوكًا للسّلطان الرّاحل الذي لم يُعتقه،
ثمّ تظهر العوائق التي تعمّق هذه العقدة، وهي داخليّة وخارجيّة، فالدّاخليّة تتعلّق
بالسّلطان الذي يرفض في البداية الإقرار بهذه الحقيقة، ثمّ يقبلها فتتعمّق العقدة
بصعوبة إيجاد الحلّ المناسب لإصلاح الأوضاع، والحفاظ على مركز السّلطان في الدّولة
والمجتمع، بل إنّ العقدة تزداد صعوبة حين يصرّ السّلطان على الخضوع للقانون في كلّ
مراحله، بدءًا بالقبول بالبيع في المزاد العلنيّ والعتق، ثمّ موافقة الغانية على
رفضها الإمضاء على حجّة العتق، وقبول قضاء اللّيلة معها في منزلها، والاحتجاج على
تزوير موعد رفع أذان الفجر.

أمّا العوائق الخارجيّة فمنها ما هو قدريّ
يتعلّق بمشيئة القضاء حيث مات السّلطان السّابق دون عتق مملوكه الذي سيخلفه في منصب
السّلطان، ومنها ما هو اجتماعيّ يتعلّق بنظرة المجتمع للمملوك الذي لا يملك أيّ
حقوق مدنيّة في مجتمع يُقسّم فيه الأفراد إلى أسياد وعبيد، وإلى أحرار ومماليك،
ومنها ما هو سياسيّ يتعلّق بالشّروط التي يجب أنْ تتوفّر في السّائس، حيث لا يُمكن
أنْ يكون من العبيد، أو منحدرًا من عامّة الشّعب، ومنها أيضًا ما يتعلّق ببقيّة
الشّخصيّات، فالنّخّاس صرّح بحقيقة وضع السّلطان لأنّه استهجن أنْ يكون السّلطان
مملوكًا، والوزير والقاضي رفضا الإقرار بالحقيقة لأنّهما يعرفان أنّها ستؤدّي إلى
خلخلة العرش وفقدان مصالحهما ومركزيهما، وقد سعيا على امتداد فصول المسرحيّة بكلّ
ما امتلكا من جهود إلى عرقلة تطبيق القانون، ومحاولة التّأثير في السّلطان لترجيح
كفّة السّيف والقوّة على حساب كفّة القانون والحقّ، ومثّلت شخصيّة الغانية عائقًا
خارجيًّا باعتبار أنّها لم تمضِ حجّة العتق لمّا طُلب منها بعد الشّراء، فعطّلت
ظهور الحلّ، وفكّ العقدة، وعطّلت تخلّص السّلطان من العبوديّة، واسترجاعه مركزه
السّياسيّ.

ويمكن أنْ نعدّ الزّمان عائقًا خارجيًّا ساهم في تكثيف العقدة،
ففي اللّيلة التي يقضّيها السّلطان مع الغانية في منزلها، سارع الوزير والقاضي بأمر
المؤذّن رفع الأذان قبل حلول موعده، وهو ما يبيّن أنّهما قد استطالا اللّيل،
واعتبراه مساهمًا في الأزمة، وما عليه إلاّ أنْ ينجلي بسرعة حتّى تستقرّ الأمور،
ويعود كلّ إلى وضعه الطّبيعيّ، أيْ يستعيد السّلطان والوزير والقاضي مناصبهم، وتعود
الغانية إلى مكانتها الحقيقيّة، وينصرف الشّعب إلى عمله، ويكفّ عن الاهتمام بقضيّة
السّلطان التي لا علاقة له بها حسب ما تقرّ بذلك الأعراف في المجتمعات ذات النّظم
السّياسيّة التّقليّديّة.
يتبع...