samedi 6 novembre 2010

بعض معاني غزل ابن زيدون

الأستاذ عيبد الوهاب الشتيوي
معهد الحبيب ثامر بصفاقس
الجمهورية التونسية
شعارنا: "لا تقل كما قيل واطلع مكان الشمسّ.
5 ـ المقابلة بين الماضي و الحاضر:
إنّ المقابلة بين زمني الماضي والحاضر ليست بدورها جديدة في الشعر العربي، بل هي ظاهرة مركزية تطرّق إليها كلّ شعراء الغزل منذ القديم مثلما تطرّقوا إلى المقابلة بين العاشقين، لأنّ قدر العشّاق ـ كما يصوّرون في قصائدهم ـ أنْ تنقطع بهم السّبل، فتتصدّع علاقاتهم وينأى عنهم الأحبّة إمّا إراديًّا وإمّا غير إرادي، فيقول ريجيس بلاشير: "ويبدو أنّ استحضار الأيّام السّعيدة قد احتلّ مكانًا فسيحًا". (ص413). ولعلّ هذه المقابلة تتجلّى كأحسن ما يكون في القسم الطّلليّ حيث يقف الشّاعر على المكان الذي احتضن علاقته العاطفيّة بالمرأة قديمًا و قسم النّسيب حيث أنّه بعد أن يتغنّى بأوصاف حبيبته النّموذجيّة ينصرف إلى ذكر الأيّام الجميلة الماضية التي قضّياها معًا في نبرة كلّها أسفٍ و حنينٍ وهو ما نعبّر عنه عادةً بقسم الذّكرى، ثمّ يعود لمتابعة الرّحلة مع الحياة في الحاضر بلا حبيبة، ولكن لابن زيدون إبداعه الخاص وطرافته المتميّزة في هذا الإطار، وهذه المقابلة متأتّية في نظرنا من تجربته السّياسيّة والعاطفيّة ونكباته المتعدّدة، فسياسيًّا تدرّج في سلّم المناصب حتى صار صاحب وزارتين لدى بني الجهور، ونعم بالحياة الراقية المترفة معهم وقبل ذلك أيضًا لأنّ عائلته من الطّبقة الأرستقراطيّة التي لها مكانتها مهمّة في المجتمع الأندلسيّ وفي عاصمة الخلافة الأمويّة قرطبة بالذّات وكان أبوه مقرّبًا من الحكم و كان جدّه من القضاة المشهورين، لكنّه تدحرج إلى السّجن وصار يعيش مع المهمّشين واللّصوص وساءت أحواله وفقد كلّ مناصبه بل كلّ اعتبار كان يحظى به سابقًا، أمّا عاطفيًّا فقد كان حبيب ولاّدة بنت المستكفي،ـ التي كانت أهمّ علاقة في حياته وشعره على ما يذكر المؤرّخون ـ و نال الوصل منها و غنم اللذّة و السّرور ، و كانت حياته إلى جوارها أيّام نعيم و صفاء، ثمّ انقلب الأمر فخسر قربها و فقد حبّها و حرم وصلها و صار الحاضر مفجعًا مفزعًا أليمًا لا يمكن تحمّله أو تصديقه ، فكانت إذن هذه المقابلة الدّائمة بين الحاضر الجميل السّعيد و الحاضر المؤلم التّعيس ، و إنّ كثرة القصائد المعبّرة عن هذه الثّنائيّة في الدّيوان ـ و هي الغالبةـ لتجعلنا نؤكّد أنّه لم ينعم بوصل حبيبته في الماضي إلاّ لمدّة وجيزة و تثبت لدينا تلك النّظريّة التي لعلّها لم تفارق شاعرًا عربيًّا واحدًا وهي "أنّ الماضي ممتع والحاضر مفجع والمستقبل مفزع".
فيقف ابن زيدون متذكّرًا الماضي واصفًا إيّاه بتوظيف معجم الطّبيعة الأندلسيّة الصّافية و يقول في القصيدة القافيّة ( ص 400 ) :
كان التّجازي بمحض الودّ مذ زمن *** ميدان أنس جرينا فيه أطلاقَـا
و يقول أيضًا مؤكّدًا صفاء هذا الماضي المشرق في النّونيّة ( ص 388 ) :
إذ جانب العيش طلق من تـألّفـنَـا *** ومربع اللّهو صافٍ من تصافينَا
و إذْ هصرنا فنون الوصـل دانـيـةً *** قطافها ، فجنينا مـنـه ما شـيـنَـا
و يصوّر لحظات الوصل و اللّقاءات الغراميّة التي جمعت بينهما في قرطبة و أماكن مختلفة منها مثل " العقيق " ، فيقول:
و أيّام وصلٍ بالعقيق اقتضيته، *** فإلاّ يكنْ ميعاده العيد فالفصْحَا
و لكنّ هذا النّعيم لم يدم طويلاً وسرعان ما زال، وهذه السّعادة أفلت وانقطعت بانقلاب الأحوال عليه وشكِّ الأمير فيه و إيداعه السّجن وإهماله هناك وعدم الاكتراث برسائله الشّعريّة التي يبعث بها إليه مستعطفًا تائبًا طالبًا العفو، وإلى الحبيبة متوسّلاً التّدخّل راجيًا التّوسّط للعفو عنه وهي التي تملك مكانًا لا بأس به في بلاط السّلطة الجهوريّة، فحضر الطّرف الثّاني للمقابلة و هو حاضر الهجر و البعد و النّوى و الغدر والسلوّ، فالحبيبة غدرت واتّخذت خصمه اللّدود حبيبًا، بعد أن أطاعت الرقباء والواشين، وصار الشاعر يعبّر عن حزنه وألمه وتعاسته وعذابه في السّجن بعيدًا عنها، وصار يعيش على الذّكرى الممتعة المؤلمة يجترّها ويلوكها دون أن يدرك منها شيئًا واقعيًّا ملموسًا، وصار يبكي أيّام الوصل الماضية المفقودة ويرسل الخطابات إلى الحبيبة يدعوها فيها إلى تجديد العهد، وزيارته والإشفاق عليه من الوحدة والأسى، ويتوجّع من الحاضر المؤلم، فيقول عن ذلك جودت الرّكابي: "ثمّ يشتدّ على شاعرنا ظلام الهجر والبعاد فإذا به يئنّ في شعره و يستصرخ محبوبته في لحن كلّه ارتجاف وذكرى". ويعبّر عنه ابن زيدون شعرًا في النّونيّة (ص 386)، فيقول:
ألا وقد حان صبح البين صبّحنَا *** حين فقام بنا للحين ناعينَا
و قد نكون و ما يخشى تفرّقـنَا *** فاليوم نحن و ما يرجى تلاقينـَا
و يصف حاله الضمأى إلى وصال الحبيبة قائلاً :
بنتم و بنا فما ابتلت جوانحنَا *** شـوقـًا إلـيـكم و لا جفّت مآقينَا
ثمّ يقارن بين الزّمنين أيْ الماضي والحاضر، فيقول:
أضحى التنائي بديلا من تدانينَا *** ونـاب عـن طـيـب لـقيانا تجافينَا
حالت لفقدكم أيامنا ، فـغـدت *** سودا و كانت بكم بـيـضا ليالينَا
وهذه المقابلة بين الماضي و الحاضر، هي من المكرّر المعاد في شعر ابن زيدون حتّى أنّ الدّارس لعدد من قصائد الدّيوان يمكنه أنْ يتنبّأ بأنّ بقيّة القصائد سائرة على المنوال نفسه، بل إنّ بعض الدّارسين يرون أنّها من خصائص الشّعر الأندلسيّ عامّة وليس شعر ابن زيدون فقط، وممّن ذهب هذا المذهب جودة الرّكابي إذ يقول: "ولعلّ أجمل ما في الغزل الأندلسيّ هو هذه النّغمة المحزنة التي يبكي فيها الشّاعر أيّام سعادته بالقرب من الحبيب و يحنّ إلى أيّامه الآفلة التي قضى الدّهر أن تكون ذكرى لحبّ مقيم". ( ص121 ـ 122). بل إنّ من الدّارسين من يجد أنّ الوقوف على أطلال الماضي العاطفي المشرق، وبكاءه باستمرار والحزن الدّائم المصبوغ على هذا الشّعر من أهمّ أسباب إعجاب القارئ به وخلوده، فيقول أحمد ضيف: "وأقرب عبارته وصولاً إلى القلوب بكاؤه على الماضي، والتّلذّذ بذكره و ما كان فيه من النّعيم .. و لقد كان ينظر إلى أيّامه الماضية فيحنّ إليها حنينًا مؤلمًا ، فإذا قرأت شعره في ذلك رأيت نفسه كأنّك واقف على أطلال سعادته البالية ، فبكى و بكيت معه " . ( عن الرّكابي ، ص 206 ) . و إنّ كثرة هذا النوع من القصائد تجعلنا نتأكّد من أنّ ابن زيدون لم يعش صفاء المودّة مع ولاّدة أو غيرها إلاّ لبرهة من الزّمن سرعان ما انقضت و تركته في يدي الوحدة يُنْهَشُ ، و نتأكّد أيضًا من غلبة معاني الحزن و صدى الحبّ المأسويّ على الشّعر الأندلسيّ الذي هو صدًى لطبيعة الحياة الإجتماعيّة السّائدة فيها الإنقلابات الخطيرة بما في ذلك الإنقلاب العاطفيّ و و تهميش دور الحبّ و الأخلاق ، و عن هذه الميزة يقول جودت الرّكابي: "ومن هنا نشأ عندهم ما يسمّى بالحبّ المعذّب الذي تفنّن الشّعراء في وصفه فرحين بالتّذلّل للحبيب والخضوع له، وقلّما حدّثنا الشّاعر عن أفراح الغرام فهو إذن ألم دائم". ( ص 121 ) .
6 ـ موقف الشّاعر من الزّمن :
اعتاد الشعراء العرب جعل الزمن كائنًا خفيًّا قويًّا صعب المراس معاديًا للإنسان باستمرار، يتربّص به في كلّ حين ليهدم لذّاته ويفرّق شمله عن الأحبّة والخلاّن، و رغم أنّ الدّين الإسلامي حاول عقد مصالحة بين الإنسان و الزّمن و ذلك بترسيخ الفكرة الجديدة المنافية للفكرة الجاهليّة ، إذ أكّد الإسلام أنّ هناك حياةً أخرى بعد الموت أفضل من الحياة الدّنيا وأنّ الإنسان لا ينتهي ولا يفنى بالموت وعليهم أن لا يفزعوا من هذا المصير بل عليهم أن يرحّبوا به لأنّهم سينتقلون إلى ما هو دائم السّعادة، فإنّ الشّعراءـ وهم يمثّلون أفراد المجتمع ـ حافظوا على النظرة التقليدية ، و منهم ابن زيدون الذي اعتبر أن الزمن من بين الأعداء الذين دمروا علاقته بالحبيبة ، و انقلب عليه بعد أن وفر له السعادة ، فيقول :
مـن مبلغ الملبسينا بانـتـزاحـهـم *** حزنا مع الدهر لا يبلى و يبلينا
أن الزمان الذي مازال يضحكنا *** أنسا بقربهم قد عـاد يـبـكـيـنـا
ويرى ابن زيدون أن لحظات الوصل التي نعم بها في الماضي بقرب الحبيبة كانت سرقات من الزمن في غفلة منه ، و على هذا النّحو يتشكّل معنى الدّهر العدوّ و الدّهر الرّقيب الذي لا يهدأ له بال حتى يفرّق بين الحبيبين ، و كأنه خلق من أجلهما ، فنرى الشاعر من أولئك المرضى النفسانيين الذين يعانون من عقدة الإضطهاد ، و يرون أن كل من وما في الكون يضطهدهم ، فيقول :
يوم كأيام لذات لنا انصرمت *** بتنا لها حين نام الدهر سراقا
و يرى ابن زيدون أنّ الصّفة الرّئيسيّة للزّمن هي الغدر بالإنسان فما عليه إلاّ أن يحذره و لا يطمأنّ له ، فإساءته قاعدة وإحسانه استثناء و خطأ غير متعمّد ، فيقول في الصّفحة 87 من قصيدة داليّة :
هو الدّهر مهما أحسن الفعل مرّةً *** فعن خطأ لكن إساءته عمْدُ
حذارك أن تغترّ منه بجانبٍ ، *** ففي كلِّ وادٍ من نوائبه سعْدُ
ونشير هنا كما ورد في الديوان إلى أنّ الشّاعر يضمّن المثل القائل "في كلّ أرض سعد بن يزيد" و مفاده أنّ شخصًا يدعى الأضبط بن قريع بن عوف بن كعب بن سعد بن زيد رحل عن قومه لأنّهم لم يحسنوا معاشرته لكنّه وجد من غيرهم ما وجد من قومه فقال: "في كلّ أرض سعد بن يزيد".
و حين تأكد ابن زيدون من هذه الصّورة القاتمة للدّهر، وأيقن أنّ الماضي لا يمكن أن يعود أبدًا، وأنّ القطيعة عن الحبيبة صارت واقعًا حتميًّا لا مهرب منه و جه نظره إلى المستقبل الأخروي . فكيف يفلسف ذلك ؟
7 ـ المستقبل / الخلاص الأخروي :
تكمن طرافة ابن زيدون في هذا العنصر، حيث إنه لم يقف عاجزا مثل الشعراء السابقين عن الأمل والطموح والتفاؤل باستعادة حبه، ولم يكتف بالوقوف على أطلال الماضي، بل إنه غير الأفق و صار ينظر إلى المستقبل الأخروي الذي سيمكنه من تجديد وصله بالحبيبة التي أحب في الحياة الدنيا، فيكون بذلك مؤمنا بخلود الحب ودوامه في الحياة الآخرة، وهي نظرية العذريين فجميل بثينة عزى نفسه بلقاء الحبيبة في الآخرة، وهي كذلك نظرية ابن حزم الأندلسي الذي يرى أن الحب الوحيد الصادق يستمر حتى بعد الموت والبعث في الآخرة فيقول ابن زيدون:
إن كان عزّ في الدنيا اللقاء بكم *** ففي موقف الحشر نلقاكم و تلقونَا
III ـ ابن زيدون بين الإباحيّة و العذريّة:
لم نجد من الدارسين من صنف ابن زيدون ضمن اتجاه غزلي من الاتجاهين المعروفين في الشعر العربي، وهما الغزل العذري والغزل الإباحي، لكن المتأمل في شعره يلاحظ تنقله بينهما، فهو يبدو أحيانا إباحيا، ويبدو أحيانا أخرى عذريا، فمن ناحية الغزل الإباحي نلاحظ ارتباط شعره ببيئته الأندلسية المتسمة بالتحرر والتمدن والاختلاط المفرط بين الرجل والمرأة، فجاءت بعض الأبيات راشحة إباحية، ناطقة عن تلك البيئة، فالشاعر يصف الحبيبة جماليا ذاكرا بعض مواطن جمالها المغرية مثل قوله:
و الروض عن مائه الفضي مبتسم *** كما شققت عن اللّبّات أطواقا
واللّبّات هنا هي موضع القلادة من الصدر المتكشف للناظر، كما يصور عذوبة ريقها ويشبهه بالخمرة، فيقول:
هلا مزجت لعاشقيك سلافها *** ببرود ظلمك أو بعذب لماك
و يصف الخد قائلا:
مفضض الثغر له نقطة **** من عنبر في خده المذهب
و يذكر في بعض الأبيات ما يشي بلقاءاته السّريّة بالحبيبة و قربه الحسّيّ منها ، فيقول مثلاً في الحائيّة ( ص 30 ) :
لم أنس ، إذ باتت يدي ليلةً ، *** وِشاحَهُ اللاّصق دون الوشاحِ
ألممت بالألطف منه ، و لم *** أجنحْ إلى ما فيه بعض الجُناحِ
بل ويصف الممارسة الحسّيّة على طريقة امرئ القيس في معلّقته ، من ذلك قوله في الرّائيّة ( ص 168 ) :
فرشفت الرّضاب أعذب رشفٍ، *** و هصرت القضيب ألطف هصرِ
و نعمنا بلفّ جسم بجسمٍ ، *** للتّصافي و قرع ثغر بثغرِ
وذكرنا سابقًا أنّه يتغنّى حتّى بالصّدر وهو الجزء الخفيّ أي أنّه يمعن النّظر في الأجزاء المغرية و له الحقّ في ذلك نظرًا للباس المرأة الشفّاف أو المكشوف في تلك البيئة و الذي تريده أن يبرز مفاتنها ، فيقول في الصّفحة 35 :
والصّدر ، مذ وردت ، رفهًا نواحيه *** توم القلائد، لم تجنح إلى صدرِ
ومعنى البيت أنّ حبّات القلائد التي تطوّق بها جيدها تحطّ على الصّدر وتأبى أن تميل عنه، والمعنى الإباحي هنا واضح و لأنّ الشّاعر ينظر إلى حبّات القلائد ويتمنّى لو أنّه موجود مكانها.
ولكن لا بد من الإشارة هنا إلى أنّ هذه الإباحيّة لم تكثر في ديوان ابن زيدون بالشّكل الذي نجده لدى امرئ القيس أو عمر بن أبي ربيعة.
أمّا من ناحية الغزل العذري فقد تعرضنا لذلك حين درسنا صورة العاشق والقيم التي يؤمن بها في الحب، إذ وجدنا الشاعر محبًّا وفيًّا مخلصًا صادقًا في حبه عازما على التضحية بنفسه في سبيل الحبيبة، ويفديها بكل ما يملك، ووجدناه معانيا متمسكا بمعاناته، مجاهدا إلى آخر المطاف، بل ومؤمنا بالحب الأخروي، ويرى أن العاشق الصادق الذي لا يناله من الحب والحبيب غير الألم والمعاناة، يكون مصيره في النهاية الموت بسبب ذلك، ويرفع الحب إلى درجة المقدس، فيقول جاعلا الحب دينا:
قـــل لـمـن دان بـهـجـري *** و هـــواه لــي ديـــــن
ويقول جاعلا صبره مثل صبر الصائم على الماء القراح:
فديتك، إن صبري عنك صبري، *** لدى عطشي على الماء القراح
وإذا كان الحب العذري غريبا عن البيئة الأندلسية لأنه حب مشرقي أولا، ولأن البيئة الأندلسية تدهورت في عصر ابن زيدون وتجوز الحب الصادق، فإن شاعرنا استطاع أن يكون مثل العذريين، وربما يكون لظروفه السياسية دور في جلبه إلى هذا الاتجاه الغزلي .
IV ـ ابن زيدون شاعر مأسويّ :
إنّ القارئ لغزل ابن زيدون و نسيبه ـ بل ومدحه أيضًا ـ بتمعّن لن يجد فيهما إلاّ صوت شاعر أنهكه الحبّ وأرهقته الأيّام واستولت عليه معالم الحزن و العذاب و الألم ، هجرته حبيبة كانت له في الماضي القريب حظوة لديها ، و مازالت لها إلى اليوم مكانة عليّة في قلبه، و هو العاشق الذي يضع نفسه مع العذريين وفيًّا مخلصًا لا يحبّ إلاّ مرّةً واحدةً و إن أحبّ فإنّه يخلص مهما تكن النّتائج ، ولا يتخلّى عن امرأة أحبّها لأنّه يظلّ متوهّمًا عودتها إليه ، لأنّها لن تجد رجلاً يحبّها كما أحبّها هو ، و لكن تمرّ الأيّام و هذه الحبيبة لا تكترث برسائله ، و لا تأبه بتوسّلاته ، و لا تعيره أيّة شفقة و لا تأخذها به رحمة ، تظلّ على عنادها و تكبّرها و إذلالها ، تقضّي أيّامها بعيدةً عنه و ربّما في أحضان البديل البغيض إلى نفس شاعرنا إذا ثبت أنّ هذه الحبيبة هي دومًا ولاّدة الأميرة ، و يظلّ الشّاعر ملاحقًا السّراب نتيجة لذلك محافظًا على وهمه الكبير، ومن هنا أتت مأساته، إنّها مأساة شاعر يعيش بالحبّ و للحبّ يفكّر بالقلب ويقلب الفكر، ويقلّب الأمور فلا يجد من حلّ سوى أن يتعلّق بالماضي ويكفّ عن الشّعور بالحاضر أو التّفكير بمستقبل مغاير، إنّها مأساة شاعر أحبّ مرّةً و دفع كلّ رأسماله العاطفي مقابل هذا الحبّ الذي رآه عظيمًا فملأ كيانه واستحوذ على أركانه، مأساة شاعر لم ينل من المرأة التي أحبّ غير النّوائب، ولم ينعم بوصلها إلاّ للحظات معدودات ولكنّه ينعم بذكرها على مرّ الأيّام، ويجد متعةً في ألمه مثل ذلك المازوخي الذي كلّما تألّم ازداد استعذابًا لذاك الألم وطلب المزيد، وهي في الحقيقة مأساة كلّ انسان يؤمن بالحبّ مع امرأة لا تستحقّ ذلك الشّعور، وفي مجتمع لا يحترم هذه العاطفة الإنسانيّة العظيمة التي تأسّس عليها الكون وبنيت عليها الحياة ـ في نظرنا ـ، ومأساة الإنسان الأندلسيّ الذي تبعثرت أحواله وتبدّدت قيمه واستولت عليه الأنانيّة والسّلبيّة المقيتة . إنّ ابن زيدون في نظرنا خير ممثّل للاتجاه المأسويّ الغالب على الغزل العربي لأنّنا في الحقيقة ـ وباستثناء عمر بن أبي ربيعة لم نجد شاعرًا صوّر باستمرار لذّة الوصل و نعيم القرب و سعادة الحبّ الدّائم و متعة الغرام مع حبيبة لا تمنعها أعراف المجتمع من التّواصل و لا تطالبها بالبخل بالعواطف ، إنّ قدر العشّاق العرب أن يصيبوا من وراء حبّهم المأساة الدّائمة فحتّى ما يسمّى بالغزل الإباحيّ الذي يصوّر فيه الشّاعر اللّقاءات الغراميّة الممتعة تتوفّر فيه بعض معاني التشكّي و الألم و النّتيجة العامة هي أنّه "لم يحدّثنا الشّعراء كثيرًا في أدبنا العربيّ عن أفراح الغرام، وأكثر غزلنا وصف لتباريح الهوى و عذاب الشّوق و قسوة المحبوبة " . ( جودت الرّكابي ، 173 ) .
إنّ هذه اللّحن المأسويّ في غزل ابن زيدون من بين أهمّ الأسباب التي تحبّب إلينا شعره لأنّه كان فيه صادقًا ولم يكن خجولاً من أن يصوّر نفسه وهي تحسّ العذابات المتعدّدة، ولم يخجل من تضخيم مكانة المرأة في حياة الرّجل لأنّها في الحقيقة هكذا وإن أنكر المنكرون، بل وقدّم فكرة واقعيّة عمّا يحسّه المحبّ في خلواته، وينكره في جهره، ووجد فيه كلّ محبّ ما يشفي غليله ويمنحه الصّبر دواءً لعشقه ، إنّ المأساة في غزل ابن زيدون أن كشف ذواتنا وصارح أنفسنا على أنفسها.

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire