vendredi 18 avril 2014

النّصّ الكامل لمسرحيّة "مغامرة رأس المملوك جابر" للكاتب العربيّ السّوريّ سعد الله ونّوس

سعد الله ونّوس



مسرحية
مغامرة رأس المملوك جابر











نحن في مقهى شعبي ... ثمة عدد من الزبائن يتفرقون على المقاعد المبعثرة في أرجاء المقهى ... معظمهم يدخنون النرجيلة ويشربون الشاي ... وبينهم يروح الخادم ويجيء حاملا صواني الشاي والقهوة ... إنه لن يتوقف عن الرواح والمجيء طوال السهرة . يسيطر على المقهى جو من التراخي والفوضى الشعبية . وتسود ضجة الكلام مختلطة بقرقرة النراجيل ، وبأغان تنبعث من راديو عتيق في المقهى . الأغاني تلعب دورا هاما في تهيئة الجو لبدء المسرحية . إنها ستتيح لنا الفرصة لتحقيق التآلف الذي يمهّد للبدء بحكاية السهرة . ينبغي أن يحس المتفرجون بنوع من الاسترخاء ، وربما الطرب ، شأنهم في ذلك شأن زبائن المقهى. وكما قلت في الملاحظات السّابقة، ليست هناك ساعة معينة للبدء . فالأغاني التي تُذاع يمكن أنْ تطول فترتها أو تقصر حسب تقدير العاملين في المسرحية. كذلك يتم اختيار هذه الأغاني في زمن تقديم العمل ، ووفقا للظروف التي يقدم فيها.
زبون 1 : ( يصفق ) يا أبو محمد.
الخادم : نعم.
زبون 1: فنجان شاي تقيل ونارة .
الخادم: حاضر.
( تنتهي أغنية ، وتبدأ أغنية أخرى .. الضوضاء تنتشر في المقهى . كلام وأحاديث جانبية وقرقرة نراجيل وسعلات جافة ... وأحيانا نسمع بعض الحوارات الجانبية التي تعلو فوق الأغنية ) .
زبون 2 : صحيح شفت اليوم أبو إبراهيم وبعث لك سلام معي.
زبون 3 : الله يسلمك ويسلمه . كيف حاله؟
زبون 2 : مسكين ما يزال مهموما ، ولا يعرف كيف يدبر أحواله .
زبون 3 : الله يساعده ويساعدنا ومن منا خال من الهم ؟.
زبون 2 : في هذه الأيام ... والله لا أحد .
زبون 4 : يا أبو محمد .. هات اثنين شاي .
الخادم : ( مقتربا بصينية الشاي من زبون 1 ) حاضر.
زبون 1 : الشاي خفيف .
الخادم : هذا خفيف ., والله مثل الدبس على كل هل تريد أن أبدله ؟.
زبون 1 : لا ماشي الحال .
( تسود ضجة الأغنية فترة ، يبدو فيها الحاضرون ، وكأنهم يصغون باستمتاع . تظل الروؤس تتقارب في أحاديث جانبية ).
زبون 4 : تأخر مونس الحكواتي . ما القصة ؟.
الخادم : لا تخف العم مونس كالساعة لا يقدم ولا يؤخر بين لحظة ولحظة تراه يحمل كتابه.
زبون 3 : والله نعيش من قلة الموت .
زبون 2 : ماذا نفعل ؟ الأمر بيد الله والمهم سترة الآخرة .
زبون 1 : نارة ..
الخادم : حاضر .
( تنتهي أغنية وتبدأ أغنية جديدة ).
زبون 5 : ألن يأتي العم مونس اليوم ؟.
زبون 1 : لم يتخلف يوما منذ عرفناه .
الخادم ( وهو يضع جمرة على نرجيلة الزبون ) لا ريب أن العم مونس آت كعادته .
( الوصلة الغنائية مستمرة ، ومعها ضوضاء المقهى . الخادم لا يكف عن الدوران حاملا إما صينية شاي أو موقد الفحم . ).
زبون 4 : اليوم سيبدأ العم مونس حكاية جديدة .
زبون 2 : حكاية البارحة كانت قاتمة النهاية .
زبون 3 : من زمان .. ما سمعنا من العم مونس حكاية تفرح السامع .
الخادم : ( من طرف المقهى ) ها هو العم مونس . كل الزبائن ينتظرون تشريفك.

أصوات : ( تتدافع وتحدث جلبة مختلطة ).
- أهلا وسهلا .
- جاء العم مونس.
- بان القمر .
- السهرات مضجرة لولا رواياتك.
الحكواتي : ( رافعا يده للجميع ) السلام عليكم (يتقدم بحركة متباطئة حاملا بيده كتابا سميكا وعتيقا).
الزبائن : ( معا ، وبشكل متفاوت ) وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته .
زبون 2 : أي والله .. لولا العم مونس ما كنا نعرف كيف نقضي السهرة .
الحكواتي : من ألطافكم .
( العم مونس رجل تجاوز الخمسين . حركاته بطيئة . وجهه يشبه صفحة من الكتاب القديم الذي يتأبطه . التعابير في ملامحه ممحوة ، حتى ليحس المرء أنه بإزاء وجه من شمع أغبر . عيناه جامدتا النظرة ، ورغم اختباط لونيهما ، فإنهما توحيان بالحياد البارد . على العموم ... أهم تعبير يمكن أن نلحظه في وجه مونس الحكواتي هو الحياد البارد ، الذي سيحافظ عليه تقريبا خلال السهرة كلها ) .
زبون 5 : اقفل الراديو ما دام العم مونس قد وصل .
الخادم : سنقفله .. سنقفله . ولكن دعوا العم مونس يشرب فنجانا من الشاي ، ويرتح قليلا قبل أن يبدأ .
الزبائن : والله حق .
شاي للعم مونس.
وهات لنا أيضا شاي .
( تخفت الأغنية ، ثم تتوقف بعد وقت . يأخذ العم مونس مكانه ، ويضع كتابه في حجره مواجها الزبائن الذين بدأوا يعدلون من أوضاعهم ، ويزيحون الكراسي ، كي يكونوا في مواجهة الحكواتي ، وأكثر تهيؤا للاستماع إليه . كل شيء يتم بعفوية الخادم يحضر الشاي للعم مونس ) .
زبون : هات نارة يا أبو محمد .
زبون 2 : ( وهو يخرج من جيبه ورقة ملفوفة ) وخذ هذا التنباك ... حضر لي نفسا على ذوقك .
( الخادم يروح ويجىء موزعا كلمة " حاضر " لكل طلب جديد ).
زبون 3 : أي .. وماذا يحمل لنا العم مونس هذه الليلة ؟.
زبون 2 : هذه المرة جاء دورها .
زبون 3 : تقصد السيرة .
زبون 2 : طبعا سيرة الظاهر . نفد صبرنا ، ونحن ننتظرها .
زبون 1 : أي والله صار أوان سيرة الظاهر بيبرس .
زبون 3 : يا عيني على أيام الظاهر .
زبون 1 : أيام البطولات والانتصارات.
زبون 3 : أيام الأمان وعز الناس وازدهار أحوالها .
زبون 2 : من زمان ونحن ننتظر سيرة الظاهر .
زبون 1 : أي يا عم مونس .. هل تحمل سيرة الظاهر أم لا ؟ .
الحكواتي : ( بهدوء يشرب الشاي ) ما جاء دور الظاهر بعدا .
الزبائن : ( أصواتهم مختلطة ) - ما جاء دور الظاهر بعد.

- ننتظرها منذ نهاية الصيف الماضي.
- كل مرة نطلبها تقول ما جاء دور الظاهر بعد.
- بالله قل لنا.. متى سيأتي دور الظاهر إذن ؟.
الحكواتي : قدامنا حكايات كثيرة ، قبل أن نصل إلى سيرة الظاهر .
زبون 1 : اقلب هذه الحكايات ، وافتح كتابك على سيرته .
زبون 2 : جفت قلوبنا يا رجل ، نريد أن نسمع عن البطولات .
زبون 3 : وأخبار الانتصارات .
زبون 1 : نريد أن نسمع عن الحق الذي يغلب الباطل .
زبون 5 : والعدل الذي يغلب الظلم .
زبون 3 : يا عيني على أيام الظاهر .
زبون 1 : اقلب صفحات كتابك يا عم مونس ، وافتح على سيرته .
الحكواتي: ( الصوت الهادئ نفسه ) الحكايات مربوطة بعضها ببعض لا تأتي واحدة قبل الأخرى . سيرة الظاهر يجىء دورها عندما نفرغ من قصص الزمان الذي بدأنا حكايته .
زبون 2 : أي زمان .
الحكواتي : زمان الاضطراب والفوضى .
زبون 2 : هذا الزمان نعيشه .
زبون 1 : نذوق مرارته كل لحظة .
زبون 3 : قلا أقل من أن ننسى همنا في حكاية مفرحة .
زبون 2 : حكاية البارحة كانت كئيبة يسود لها قلب السامع .
الحكواتي : هذه الحكايات ضروية .
الزبائن : ضرورية .
الحكواتي : وينبغي أن نرويها ..
زبون 2 : لماذا ينبغي أن ترويها ؟.
الحكواتي : لأنها في تسلسل الكتاب ، هي التي تقود إلى زمن الحكايات. المفرحة . لكل شيء أوان ، وسيرة الظاهر دورها بعد قصص هذا الزمان لا تخافوا .. ستأتي سيرة الظاهر ، وستسمعونها خلال سهرات وسهرات . لكن القصص مرهونة بتسلسلها وأوانها . لكل قصة أوان ( يفرغ من فنجان الشاي ) والآن .. نفتح الكتاب ، ونبدأ بالسلام على النبي ...
الزبائن : ( في طبقات صوتية متفاوته ) - اللهم صل على النبي - ألف الصلاة والسلام على النبي .
زبون 1 : وإذن خاب الأمل بسماع حكاية الظاهر .
زبون 3 : يا سيدي ما دام العم مونس موجودا ، سنسمعها عاجلا أم آجلا .
زبون 2 : ألم ينته تحضير النفس يا أبو محمد ؟.
الخادم : حالا .
زبون 1 : إنما الرجاء الآن أن تكون الحكاية طيبة .
الحكواتي : تسمعون وتحكمون بأنفسكم .
الزبائن : يا الله يا سيدي ..
- هات واسمعنا .
الحكواتي:( يبسمل بصوت خافت ، وعندما يبدأ القراءة يتضح جيدا الحياد البارد ، الذي ينضح من صوته ومن تعابير وجهه كلها ) يا سيادة يا كرام ... قال الرواي وهو الديناري رحمه الله تعالى ...
الزبائن : آمين .
- والله تستحق روحه الرحمة.
- حكايات الديناري .
- حبل لا ينقطع .
الحكواتي : قل الراوي .. كان في قديم الزمان وسالف العصر والأوان خليفة في بغداد يدعى شعبان المنتصر بالله وله وزير يقال له محمد العبدلي . وكان العصر كالبحر الهائج لا يستقر على وضع . والناس فيه يبدون وكأنهم في التيه . يبيتون على حال ويستيقظون على حال . تعبوا من كثرة ما شاهدوا من تقلبات ، وما تعاقب عليهم من أحداث . تنفجر من حولهم الأوضاع فلا يعرفون لماذا انفجرت ثم تهدأ حينا من الزمن فلا يعرفون لماذا هدأت . يتفرجون ، ثم تهدأ حينا من الزمن فلا يعرفون لماذا هدأت . يتفرجون على ما يجري ، لكنهم لايتدخلون فيما يجري . ومع الأيام اعتقدوا أنهم اكتشفوا سر الأمان في مثل هذا الزمان ، فقنعوا بما اكتشفوا ، ورتبوا حياتهم على أساس ما اعتقدوه أسلم الطرق إلى الأمان .
( يدخل خمسة ممثلين .. ثلاثة رجال وامرأتان .. يمثلون جميعا أهالي بغداد في ذلك الزمان ، يتقدمون من الزبائن ، ويتورعون أمامهم... ).
الرجل الأول : وعندما يسمى الخليفة لا أحد يطلب من عامة بغداد رأيا أو نصيحة .
الرجل الثاني : وعندما يسمى الخليفة وزيره يأمرنا بطاعته .
المجموعة : فنطيعه .
الرجل الثالث : وإن غضب الخليفة من وزيره ، وأفلح في عزله .
المجموعة : أيدنا الخليفة ، وأعرضنا عن وزيره .
الرجل الثاني : وكذلك الحال بالنسبة لقاضي القضاة .
الرجل الثالث : وكذلك الحال بالنسبة للقواد والولاة .
المجموعة : لا يطلبون من عامة بغداد رأيا أو نصيحة .
الرجل الأول : ويأمروننا بالبيعة .
المجموعة : فنبايع .
الرجل الثاني : ويأمروننا بالطاعة .
المجموعة : فنطيع .
المرأة الأولى : ذلك هو سر الأمان في هذا الزمان .
الرجل الثالث : تعلمناه من الجلادين وسياطهم المرصعة بالمسامير .
الرجل الأول : ومن حراب الحراس وعيونهم الزجاجية .
المرأة الثانية : ومن السجون التي لا تنفتح أبوابها إلا إلى الداخل .
المرأة الأولى : من أين نطعم أولادنا ، إن اهترأ رجالنا تحت السياط ووخز الحراب .
المرأة الثانية : وماذا نفعل إن انطبقت أبواب السجون على أحبتنا ؟.
الرجل الثالث : وتعودنا تغير الأوضاع .
الرجل الثاني : وتعاقب الخلفاء الوزراء .
المرأة الثانية : وقتل الرجال لأتفه الأسباب .
المرأة الأولى : وغياب رجال لكذبة أو وشاية .
الرجل الثالث : مالنا نحن وشؤون السادة .
الرجل الأول : يأمروننا أن نبايع .
المجموعة : فنبايع .
الرجل الثاني : يأمروننا أن نطيع .
المجموعة : فنطيع .
الرجل الثالث : وفي هذا العصر المضطرب من يعرف اليقين ؟.
المجموعة : ونحن عامة بغداد آثرنا السلامة والأمان ننزف دماءنا الليل والنهار بحثا عن لقمة العيش .
ومحظوظ من تتوفر له في بغداد لقمة العيش .
( بحركات بطيئة ينسحب الممثلون خارجين من المكان ).
زبون 2 : إي والله كأن الأحوال لا راحت ولا جاءت .
زبون 3 : يا سيدي من زمان هذا هو طريق الأمان .
زبون 4 : هات واحد شاي كمان .
الخادم : حاضر .
الحكواتي : هكذا حال الناس في بغداد في سالف العصر والأوان حين كان الخليفة شعبان المنتصر بالله ووزيره محمد العبدلي على وفاق . وكذلك كان حالهم حين بدأ بينهم الخلاف والشقاق . وفي البداية كان الخلاف سرا ، ثم انفجر ، وبدأ يشيع في ردهات القصور ، وينتقل منها إلى المدينة وأسماع الناس . وكان عند الوزير محمد العبدلي مملوك يقال له جابر . ولد ذكي .. وذكاؤه وقاد . أينما حل يحل معه اللهو والمجون . وكان كأهل بغداد آخر من يعينه ما يجري بين الخليفة وسيده الوزير .
( يدخل ممثلان يحملان قطع ديكور بسيطة جدا ، تمثل ما يشبه رواقا في قصر بغداد ، ويمكن هنا وفي كل المشاهد التالية الاستعاضة عن قطع الديكور بلوحات مرسومة ، بعد تركيب المشهد . يلتقي الممثلان في المقدمة . الأول يمثل المملوك جابر ، شاب تجاوز الخامسة والعشرين من عمره ، معتدل القامة ، شديد.
الحيوية ، يمتاز بملامح دقيقة وذكيه وفي عينيه يتراءى بريق نفاذ يوحي . بالفطنة والذكاء . أما الثاني فهو المملوك منصور في حوالي الخامسة والثلاثين من عمره أو أكثر قليلا . قامة قصيرة وبنية قوية . ملامح تشف عن وداعة وطيبة ) .
جابر : ( يتقدم نحو رفيقه لاهيا .. مدندنا ) عندما أصبح للمسلمين خليفة ، سأسميك وزيرا للدولة .
منصور : هس .. لو سمعك سيدنا وهو في هذه الحالة ، لأمر بجلدك حتى يهترئ جلدك .
جابر : ( يفرك مؤخرته بباطن كفه ، وكأنه يساط فعلا ) ولم كفى الله الشر !.
منصور : ألا ترى ما يجري سيدنا الوزير متكدر المزاج للغاية .
جابر : أعرف أنه متكدر المزاج . وأن الحظ يبتسم لجاريته شمس النهار .
منصور : ولماذا يبتسم الحظ لجاريته شمس النهار ؟.
جابر : ( هامسا في أذنه ، وعلى وجهه تتخايل ابتسامة الخبث ).
لأن سيدنا الوزير لا يشبع من وصالها عندما يتكدر مزاجه . لو استمر الحال كذلك فستصبح شمس النهار سيدة كل شيء في هذا القصر .
منصور ( يهز رأسه ) كف عن الهزار يا جابر .
جابر : وحياتك ليس هذا خادمتها زمرد هي التي تنقل إلى الأخبار .ولقد روت لي أشياء وأشياء ( تبرق عيناه ) آه ... من هذه البنت يا منصور لها طريقة لا تجارى في رواية الأخبار ( يؤدي مع الكلام حركات تمثيلية ) تغمز ، وتضحك ، ويتثنى جسدها مع الكلام حتى يغلي دم السامع في كل مرة أراها تجعلني أخور كالثور إنها محنكة كسيدتها . تمنيني بالوعود ، لكنها لا تترك لي سبيلا للوصول .
منصور : ( متأففا ) انظروا ماذا يشغله الآن !.
جابر : وماذا تريد أن يشغلني ؟.
منصور : ألا ترى أن الأمور لا تجري على ما يرام ؟.
جابر : ومتى كانت الأمور تجري على ما يرام ؟.
منصور : هذه المرة يختلف الحال . تعقد الوضع ، وأصبح في غاية الاضطراب .
جابر : يستطيع الوضع أن يتعقد ، ويضطرب حتى يصبح كمياه دجله ، ولكن بعيدا عني . .
منصور : بعيدا عنك !! الأحوال تضطرب بيننا ومن حولنا . إن الخلاف على أشده بين الخليفة والوزير .
جابر : وما لنا نحن هل تريد أن نمنعهما من الاختلاف ؟.
منصور : ومن نحن حتى نتدخل بين الخليفة والوزير .
جابر : إذن .. ليختلفا ، وليفقأ كل منهما عين الآخر . لن ألطم خدي ، وأمزق ثيابي لأن الخليفة والوزير مختلفان.
منصور : هس ... ( ويلتفت حوله خائفا أن يكون حولهما سامع ) اغسل فمك ، وإلا رموا عنقك . لن أندهش لو رأيتك يوما مقطوع اللسان .
جابر : وأنا لن أندهش لو رأيتك مشنوقا لأسباب سياسية . أم نسيت أن المشانق في بغداد ، لا تنشطها إلا الأسباب السياسية . ما الذي يعينك في خصام الخليفة والوزير حتى تنشغل إلى هذا الحد ( لحظة وبحيوية ) اسمع .. لقد بدلت رأيي. .
منصور : بدلت رأيك ؟.
جابر : لا يعجبني اهتمامك بهذه الشؤون . ستكون بارعا في حوك المؤامرات لو سميتك وزيري .
( يبدأ منصور بالتأفف ، ويحاول مقاطعته لكن " جابر " يتابع بنفس المرح ) عندما أصبح خليفة ، سأبحث عن وزير غبي وأمين . ذلك أضمن .
هو .. هو .. بالله دعنا من مزاحك .
جابر : ولكن لا أفهم لماذا تبدو كالصوص الغارق في الماء ! كل هذا لأن الخليفة والوزير مختلفان .
منصور : وصل الخلاف حدا شديد العنف .
جابر : ينبغي أن يكون الخلاف شديد العنف ، كي يليق بخليفة ووزير .
منصور : وإذن لا تقدر الخطر الذي يحيط بنا ، النتيجة هي الأخرى ستكون عنيفة . من رأى سيدنا الوزير يخرج من الديوان أمس ، حسب أن عاصفة تهب . كان قاني العينين ، كامد الوجه ، يقضم شاربه بأسنانه .
جابر : إذا بدأ سيدنا الوزير يقضم شاربه بأسنانه ، فهو ينوي شيئا مريبا دون شك .
منصور : فور خروجه بادر إلى الاتصال بأصحابه . لا أحد يعلم ما يجري ، إلا أنني أشم رائحة خطر عظيم .
جابر : لو ذبح أحدهما الآخر ، فستصبح في بغداد وظيفة شاغرة .
منصور : ونحن ؟ .. هل فكرت ماذا سيحل بنا ؟.
جابر : ماذا سيحل بنا ننزوي جانبا ونتفرج .
منصور : قد تتفرج على جهنم قبل ذلك .. بالله كيف تريدنا أن نتفرج على فتنة تقع بين الخليفة وسيدنا الوزير .
جابر : كما يتفرج كل الناس .. نفتح أعيننا ونتسلى لمتابعة ما يجري .
منصور : ويريد أن نتسلى أيضا أما مجنون فكر في مصيرنا .
لو شبت نار الفتنة .
جابر : وما علاقة مصيرنا ؟ قد الوزير من الكمد ، أو يتوقف قلب مولانا الخليفة من الغضب أما نحن فلن تنفجر لنا مرارة ، أو يتوقف لنا قلب .
منصور : من السهل أن تقول ذلك ، ولكن لو اندلعت النار ، فسنكون الحطب الذي يغذيها .
جابر : يغذي النار من أوقدها .
اسمع . ولم لا تتدفأ بالنار بدلاً من أن تحرق أصابعك بها ؟.
منصور : لن نستطيع سيجروننا وراءهم ، ونجد أنفسنا فجأة وسط اللهب ، في النهاية نحن من يدفع الثمن .
جابر : وما أدراك قد نقبض بدلاً من أن ندفع .
منصور : أهذا ما تأمله ؟.
جابر : ولم لا لكل عملة وجهان والمهم أن تميل في الوقت المناسب إلى الوجه الكاسب ...
زبون 1 : ابن زمانه ...
زبون 2 : هذا المملوك شيطان .
جابر : ( أثناء حديث الزبونين يظل منغمراً في متابعة مجرى ما يريد قوله ... تبرق عيناه وقد خطرت له فكرة مفاجئة ) .
أقول لك ... تعال نتراهن ..
منصور : وعلام نتراهن ؟.
جابر : على الوجه الكاسب .. انتظر .. ( يزداد بريق عينيه ، وهو يفتش في جوبه ) .
اللعنة نسيت أني أعطيت كل ما أملك لزمرد آه من النساء ! يتجملن بنقودنا ، ليأخذن نقودنا مرة أخرى . ألديك قرش ؟ فتش في جيبك عن قرش .
منصور : ( يتابعه ببلاهة ) ماذا تريد أن تفعل ؟.
جابر : ( بمد يده ملحا والبريق يتقد فى عينيه ) هات قرشاً ، وسترى ...
منصور : لن أعطيك قرشا هكذا لوجه الله .
جابر : لا تخف قرشك محفوظ ، ولن آخذه .
( يخرج منصور على مضض قرشا من جيبه ، فيخطفه جابر ، ويفركه بين أصابعه . إنه بدأ لعبة . حركاته تتسارع وكذلك كلماته ) انظر ... الكومة كلها في هذا القرش ( يتوقف الخادم فجأة وهو يحمل صينية وينتبه ناحية الممثلين متابعاً لعبتهم باهتمام ) .
زبون : بعد من قدامنا يا أبو محمد .
( يغير الخادم مكانه ... بينما جابر يوالي كلامه ولعبته دون أن يتوقف ).
جابر : الخلافة والوزارة معا. الوجه الأول يمثل الخليفة ، والوجه الثاني يمثل الوزير ، كلاهما في هذا القرض ، فلنتراهن على الكاسب ( يرميه في الجو ثم يلتقطه، ويخفيه بين راحتى يديه ) أيهما تختار الوجه الأول أم الثاني ؟ الخليفة أم الوزير ؟ يا الله ... اختر أحد الوجهيين كل الدولة في هذا القرش ، الخليفة أم الوزير ؟ ( لحظة ) أخمن أنك ستقول الخليفة .
منصور : ( انساق مع جابر على غفلة منه . تفاجئه العبارة ) ما الذي يجعلك تخمن ذلك ؟.
جابر : أعرف كيف تفكر تحسب أن الخليفة هو دائماً أقوى لا ... لا ... تعتمد على ظواهر الأمور . فكم من خليفة لا يقدم ولا يؤخر مثقال ذرة . لخ من الخلافة اسمها وسرايا الحريم فقط معاذ الله ان أقصد مولانا الخليفة بسوء لكن أحذرك من الاعتماد على ظواهر الأور والآن ماذا قلت ؟ هل بدات تميل نحو سيدنا الوزير ؟.
منصور : ( ما يزال منساقا مع اللعبة ، وعلى وجهه انزعاج وشيق ) أميل نحو سيدنا الوزير جابر : ربما ... ولكن تذكر أن لهذا الأمر أياً مخاطر وإذا كانت مؤخرة الخليفة تملأ العرش وعلى مقاسه ، فقد راهنت على وجه خاسر .
منصور : ( منبهاً إلى نفسه ، بدأ يغضب ) لم أراهن على أحد ، ولم أقل شيئاً .
جابر : ماذا تنتظر إذن ؟ التردد هو الآخر له مغبته ، الخليفة أم الوزير ؟.
منصور : (ملتفتا حوله ) .
أعوذ بالله ... أرجو أن أحداً لا يرانا أو يسمعنا .
جابر : هدئ أعصابك ، ولا تفسد الرهان ، الربح قرش ، والخسارة قرش وبينهما خليفة المسلمين ووزيرهم معلقان . فقل كلمة وخلصنا .
منصور : لعنة الله عليك ، لم أر في حياتي ماجنا مثلك . رد لي قرشي .
جابر : قد أكسبه لو أخطئت التخمين ماجنا مثلك رد لي قرشي .
جابر : قد أكسب . لو أخطئت التخمين يصبح قرشي .
جابر : ولماذا لا تفك عقدة وجهك يا منصور ؟ دعنا نتسل قليلاً . طيب .. إذا شئت سألعب بمفردى ، سأقول .. ( يتلكأ ) ماذا أقول ؟ وما الفرق النقل ... ( وبعد لحظة ) الخليفة ( يرفع كفه التي تخفي القرش ، وينظر يتخذ صوته طابعاً مأساوياً نادبا ) يا خيبتى إنه الوزير .. فليبك المسلمون إذن خليفتهم . أراهم يحزون عنقه ، ويسيل الدم كالنافورة .
منصور : ( مرتبكا . وفي غاية الحرج والضيق ) أستغفر الله العظيم ...
جابر : معنى ذلك أننا نرتفع مرتبة إذا علا مقام سيدنا الوزير ، يعلو أيضاً مقام مماليكه لكن شوطا واحدا يكفي السباق الصحيح لا يستقيم إلا بثلاثة أشواط والآن إلى الشوط الثاني لنرى القرش مرة أخرى ( يرمي القرش برشاقة ، يهم منصور بخطفه ، لكن جابراً يلتقطه كالمرة السابقة ويخفيه بين كفيه ) ساعدني يا منصور ، قل شيئاً .
منصور : لن أشترك في عبثك ومجونك ، الخطر يحيط بنا كالهواء وأنت تلعب رد لي قرشي.
جابر : انتظر ، انتظر يجب أن تعرف النتيجة . والآن ماذا أقول . لو تكرر ظهور الوزير تنتهي اللعبة ( موجها الكلام إلى القرش المختفي بين يديه ) على أي وجه تستقر أيها القرش ؛ ستقرر مصير دولة بأسرها أعرف أن تقلباتك مجنونة لا يحكمها ضابط ولكن قد يجعلنا الحظ نتلاقى ، وجدتك ميالاً وانظر ( ويبدأ برفع كفه تدريجياً ) بأي وجه ستطالعنا ... بأي وجه ... بأي وجه ؛ إنه الخليفة . واحدة بواحدة . بقي شوط أخير .
وعليه تتوقف أمور كثيرة .
( يفرك جابر القرش ، ثم يرميه من جديد لكن " منصور " يسرع ، فيلتقطه غاضبا ، ويضعه في جيبه . ) .
منصور : وهو ( ينسحب ) لعنة الله عليك .. لا حد لاستهتارك .
جابر : بقي شوط واحد . فلم تفسد لعبتنا ( يبتعد منصور ولا يجيبه ، فيلتفت جابر صوب الزبائن متأهبا بدوره للانسحاب ) لو أعرف فقط ما الذي يعنيه في خلاف ينشب بين الخليفة والوزير ( يهز كتفيه ويمضى) .
زبون : ( لجاره ) ما قولك و الله ولد ابن زمانه .
زبون 2 : لا شيء يشغل باله .
زبون 1 : لا خليفة ولا وزير .
الخادم : ( وهو يدور بالموقد ) نارة .
زبون 2 : تعب قلب ووجع رأس بلا فائدة .
زبون 3 : تعال هنا .
( الخادم يقترب من الزبون الذي يناديه ، حاملا الملقط وموقد النار).
الحكواتي : ( يستأنف بعد أن يخلو المسرح ) هذا ما بدا من المملوك جابر حين سمع عن الخلاف الدائر وكانت الأمور تتطور بسرعة ، وتشيع الأنباء بين الناس كالوباء فقد قضى الخليفة ليلة مجتمعا بقواد الأمن ، وفي الصباح ظهرت في بغداد إجراءات حازمة ومنذرة . وكان الوزير يرغي في ديوانه ، وحوله عدد من أصحابه أمراء وتجار كبار أما أهل بغداد فما أن شاعت بينهم الأنباء ، حتى يسرعوا كعادتهم يزاحمون حول الأفران ، ليؤمنوا خبزهم لأيام ...
( يدخل الممثلون الخمسة الذين رأيناهم من قبل يمثلون أهل بغداد ، وهم يحملون معهم شباك فرن وبعض القطع الأخرى التي مكن أن توحي بمنظر شارع عام . يضع الممثلون قطع الديكور ويركبونها أمام المتفرجين . يمكن هنا كما في كل المشاهد ، الاستعاضة عن ذلك بالبانوهات المرسومة . بعد إعداد المنظر يبدأ التمثيل . إنهم ينتظرون بنفاد صبر وقلق أمام شباك القرن .
يتطلعون إلى الداخل ، ويتعجلون الفران . متعبون وعلى وجوههم اضطراب وشعور عميق بانعدام الأمن ).
المرأة الأولى : أف .. منذ الصباح وأطفالي وحدهم في البيت لو كنت أعلم لحملتهم معي .
الرجل الثالث : انتصف النهار ونحن في الانتظار .
الرجل الأول : ( مادا عنقه فوق رؤوس الآخرين نحو شباك الفرن ) ولكن ماذا يفعلون بحق الله ؟ أخشى أن يكونوا نائمين .
الرجل الثاني : ( وهو أقربهم إلى الشباك . يوجه الكلام إلى الفران ) يا الله يا أبو عمر .
صوت الفران : ( من الداخل ) وهل ترانا نتثاءب ؟ منذ منتصف الليل لم تهدأ أيدينا .
الرجل الأول : ومع هذا نحن ننتظر منذ وقت طويل .
صوت الفران : ماذا نفعل ؟ كل واحد يطلب اليوم أضعاف حاجته .
الرجل الأول : أمر طبيعي في مثل هذا اليوم .
المرأة الأولى : إذا وقعت الواقعة فمن يعرف متى تنتهي .
صوت الفران : إذن امسحوا وجوهكم بالرحمن ، وانتظروا .
المرأة الثانية : ( وهي تجلس ) أف .. يبست أقدامنا ونحن ننتظر .
الرجل الثاني : ما الفائدة سننتظر . لا بد من الخبز .
الرجل الثالث : ( يجلس بدوره) في هذا الوقت الخبز أهم شيء إذا توفر في بيتك ضمنت نصف السلامة .
المرأة الأولى : ووراءنا أطفال سيصرخون إن لم يجدوا لقمة الخبز .
الرجل الثاني : لن نذهب قبل أن نؤمن خبزنا لثلاثة أيام أو أربعة .
المرأة الثانية : أربعة أيام ( تتنهد ) محظوظ من يستطيع أن يشتري خبزا لأربعة أيام .
الرجل الثاني : أختي . لا تظني بي اليسر . والله سأفرغ كيسي كله في يد الخباز .
الرجل الأول : أفضل لنا جميعا أن نفرغ أكياسنا الهزيلة الآن بعد قليل سيصبح ما فيها كالعملة الباطلة .
المرأة الأولى : ماذا تقصد ؟.
الرجل الأول : ( خافض الصوت ، كأنه يسر لهم ) حتى الآن .. لم يرتفع سعر الخبز إلا قليلا ، ولكن خلال ساعات ..
المرأة الثانية : ( تقاطع باندهاش وقلق ) هل رفعوا سعر الخبز ؟.
الرجل الأول : ألم تعلمي ؟.
الرجل الثالث : بدأ الغلاء مع الصباح .
الرجل الأول : رفعوا السعر قرشا . ولكن خلال ساعات سترتفع الأسعار كالحمى ، وستصبح قروشنا كالعملة الباطلة .
المرأة الثانية : أعوذ بالله .. لا تفتح علينا هذا الباب ... .
الرجل الأول : أأنا أفتحه كأنك لا تعرفين تجار بغداد إنهم يزقزقون اليوم .
الرجل الثاني : يزقزقون ويغردون .
المرأة الأولى : خزاهم الله . لو استطاعوا لأكلوا لحومنا نيئة .
الرجل الثالث : هذا يومهم .. ولو تطورت الأزمة لأصبح كل شيء أغلى من الذهب .
الرجل الأول : لو تطورت وماذا تسمي ما يجري إذن إنها تتطور وبسرعة مخيفة .
الرجل الثاني : فعلا وإلا ماذا يعني خروج الحراس من ثكناتهم .
المرأة الأولى : ( تشهق ) آه .. بالله لا تذكرنا .
المرأة الثانية : أجارنا الله .. فاجأتني وجوههم عند المنعطف ، فارتخت ساقاي ، وكدت أسقط. .
المرأة الأولى : رؤية الموت أهون .
الرجل الثاني : اكتسحوا الأسواق كالعاصفة كان الناس يختفون في الجدران وهم يرتعشون . لا أستغرب لو أن بعضهم بال في سرواله .
( بينما الحوار مستمر ، يدخل رجل رابع يحمل كيسا فارغا . يمكن أن يقوم بدوره الممثل الذي يقوم بدور منصور ، وإن بدا الآن أكبر سنا . ينضم إلى الجماعة ، ويجلس واضعا كيسه في حجره . يلتفت الآخرون إليه . إلا أنهم لا يعيرونه كبير اهتمام ) .
الرجل الثالث : عشت عمرا طويلا ، ومع هذا لا أذكر يوما أن أهل بغداد لم يبولوا في سراويلهم ، عندما يظهر الحراس في الشوارع .
الرجل الثاني : أما اليوم فأكثر وأكثر . كالعاصفة اكتسحوا المدينة . ألم تر أسلحتهم المشهرة ووجوههم العابسة . من المؤكد أنهم ينفذون قرارات خطيرة .
الرجل الأول : ملأوا الشوارع والساحات . كيفما تحرك المرء يصطدم بهم .
المرأة الثانية : سترك يا رب .. ينتفض قلبي كلما تخيلت وجوههم .
الرجل الثاني : كل المظاهر تدل على أنها واقعة بين لحظة وأخرى .
المرأة الأولى : ولا أحد يعلم ما يخبئه لنا الغد .
الرجل الثاني : سبحان علام الغيوب . زمن أين لنا أن نعرف ما يخبئه الغد .
الرجل الأول : لهذا خير ما نفعله هو أن نؤمن خبزنا ، ونختفي في بيوتنا . .
الرجل الثالث : هذا هو الصواب . نشتري أرغفتنا ، ونمضي إلى بيوتنا .
المرأة الثانية : ولكن متى ينتهي الخباز ، ويتركنا ننصرف ؟.
المرأة الثانية : ولكن متى ينتهي الخباز ، ويتركنا ننصرف ؟.
المرأة الأولى : لو علمت أننا سننتظر كل هذا الوقت ، لحملت أطفالي معي .
الرجل الأول : ( يلقي نظرة على الرجل الرابع ) وكلما تأخروا ازدادت جمهرة الناس أمام الفرن . لن يبقي للشاطر رغيف .
الرجل الثاني : ( إلى داخل الفرن ) أنظل واقفين يا أبو عمر ، انكسرت ظهورنا .
صوت الفران : عليكم بالصبر إلا إذا أردتم أن تشتروا عجيناً بدلاً من الخبز .
الرجل الثاني : اسمعوا .. بعد كل هذا الانتظار يريد أن يبيعنا عجينا بدلاً من الخبز .
المرأة الأولى : أعوذ بالله ! ما هذا اليوم ؟.
الرجل الثالث : لا خيار لنا سننتظر ونحن مضطرون في هذا الوقت الخبز أهم شيء .
المرأة الثانية : حتى ولو كان عجينا يغص به الآكل .
الرجل الثاني : إننا منتظرون على كل حال .
( تأفف .. بعضهم ينفخ نافد الصبر وتسود لحظات من الصمت ) .
الرجل الرابع : لا مؤاخذة ... وهل بينكم من يعرف بالضبط ما يجري ! .
( يلتفت إليه الجميع ، وتتفرس فيه العيون ، كأنهم يكتشفون وجوده لأول مرة بينهم ) .
الرجل الأول ( ساخراً ) بالضبط .
الرجل الثاني : ومن أين لنا أن نعرف بالضبط ما يجري ! .
الرجل : ألست من أهل بغداد ؟.
الرجل الرابع : أي وحق الله مولود فيها ، وكذلك أبي وأجدادي .
الرجل الثاني : وإذن فأنت تعرف ما نعرف لم يعد الاضطراب سرا .
المرأة الثانية : اضطراب الأحوال كالحريق لا يخفى دخانه .
الرجل الثالث : نعرف ما نراه ... وما نراه هو غيوم سوداء كالفحم تخيم على بغداد .
الرجل الثاني : كل الظواهر تؤكد أن العاصفة ستهب بين لحظة وأخرى .
المرأة الأولى : ارحم عبادك يا رب .
الرجل الثالث : وإذا هبت العاصفة ما علينا إلا أن ندخل بيوتنا ونغلق نوافذها جيداً .
الرجل الأول : ألم تر الحراس وهم يجتاحون الشوارع .
الرجل الرابع : أي وحق الله رأيتهم وتعوذت من رؤيتهم .
الرجل الأول : والتوتر ألم تسمع بأن الوضع متوتر وأن الخلاف شديد بين الخليفة والوزير .
الرجل الثاني : كلاهما متصلب أكثر من الآخر ولا يبدو أن هناك سبيلاً للوفاق أو التراجع .
الرجل الرابع : أي وحق الله سمعت عن هذا أيضاً .
الرجل الأول والثاني : ( معا وبغيظ ) ما الذي تجهله إذن ؟ .
الرجل الرابع : ما أجهله كثير ، أسأل إن كان بينكم من يعرف سبب الخلاف أو توتر الأوضاع .
الرجل الأول : يسأل عن سبب الخلاف !.
المرأة الأولى : وكيف يمكن أن نعرف لماذا يختلف السادة .
الرجل الثالث : وما علاقة أمثالنا في ذلك ؟.
المرأة الثانية : إنهما مختلفان والسلام المهم أن يخلصنا الفران ، ونذهب إلى بيوتنا .
الرجل الرابع : وحق الله من الضروري أن نسأل عن سبب الخلاف ، وأن يكون لنا رأي فيه .
الرجل الثالث : أيها الرجل ... تثير شؤونا خطيرة ، عاقبة البحث فيها وخيمة .
المرأة الأولى : هل تريد أن تدهور الناس ؟.
المرأة الثانية : بالله عليك .. العب بهذه الشؤون المفزعة بعيداً عنا من نحن حتى نسأل عن سبب الخلاف بين وزير وخليفة !.
الرجل الثالث : الضروري بالنسبة لنا هو الخبز والأمان لا سبب الخلاف .
المرأة الثانية : أي والله ، هذا كل شيء الخبز والأمان .
المرأة الأولى : سلامة أولادنا أغلى من الدنيا كلها .
الرجل الثاني : وما علاقتنا! ابعد عن الشر وغنِّ له .
الرجل الرابع : ( دائماً هادئ اللهجة، واثقا من نفسه ) وحق الله لا أخالفكم الرأي ، ولكن طريق الخبز والأمان واأسفاه يمر من هذا السؤال .
المرأة الثانية : ( هامسة للأولى ... يبدو الضيق وكذلك الدهشة على وجوه الجميع ) ويلح في إثارة شؤؤنه .
المرأة الأولى : قلت لكم يريد أن يدهورنا .
الرجل الأول : ولماذا يمر فيه أتأمل أن يكون الخلاف من أجل تخفيض الضرائب .
الرجل الثاني : أو من أجل تحسين أحوال الرعية .
الرجل الثالث : عشت عمراً طويلاً ، يا ما رأيت سادة يعلون وآخرين يولون .
الرجل الثالث : عشت طويلاً ، يا ما رأيت سادة يعلون وآخرين يولون ، أما عامة بغداد فحالهم هو هو ، وإن ضمنوا السلامة كان فوزم عظيماً .
الرجل الأول : أمر معروف ... لا يختلف السادة من أجل عامة بغداد ( لحظة ... هامساً ) ربما كانت الخزينة تزرب .
الرجل الثاني : أو كان نزاعا على قيادة العسكر .
الرجل الأول : أو على تعيين الولاة .
المرأة الثانية : ( قلقة تحاول أن تقطع الحديث ) بالله ابعدونا عن هذا الحديث .
الرجل الأول : المهم ... لا يختلف السادة من أجل عامة بغداد .
( يظهر في الشارع حارسان مدججان بالسلاح ، يبدو أنهما يقومان بأعمال الدورية تلحظها المرأة الثانية ، فيرتعش وجهها بالخوف ، وترتبك تمسك الرجل الأول من طرف سترته ، لتنبهه .. ) .
الرجل الرابع : ( وكان مطرقاً ) وحق الله ... ما تقولونه ... .
المرأة الثانية : ( برعب ، والحارسان يقتربان ) هس ... .
الرجل الرابع : ( ينتبه إلى اقترابهما يغير الكلام ، ويواصل دون تلعثم ... يتابعه الآخرون بخوف ودهشة ) فلما حط الحمال حمولته على تلك المصطبة ليستريح ، خرج عليه من الباب نسيم رائق ( كلما اقترب الحارسان يعلو صوته ) ورائحة ذكية فاستلذ الحمال لذلك ، وجلس على جانب المصطبة ، فسمع نغماً وأوتارا وعودا وأصواتا مطربة ( يتوقف الحارسان قرب الجماعة ) فعندئذ تعجب وتقدم يتبع الصوت. دفع الباب ودخل .. فوجد أمامه بستانا عظيما، ورأى فيه غلمانا وخدما وحشما ، ثم هبطت عليه رائحة أطعمة زكية من جميع الألوان المختلفة والشراب الطيب ، فرفع طرفه إلى السماء ، وقال : ماذا قال ؟ ( يتوقف لحظة ، وكأنه يشوق السامعين ) .
الحارس 1 : يتسلون ، ويروون حكايات .
الحارس 2 : أشعر بالجوع .
الحارس 1 : ( يوالي ... بينما يبتعد الحارسان ) قال ... سبحانك يا رب يا خالق وعندها لمح صبية ذات حسن وبهاء ...
( يختفي الحارسان ، فيتوقف الرجل الرابع ، يتنهد الجميع بارتياح وكأنهم خروجوا من محنة ، بعضهم يجفف حبات عرق تفصدت من الوجوه ).
المرأة الأول : ( ساقاها ترتجفان ، فتجلس ) آه ... لا تحملني ساقاي بعد.
المرأة الثانية : عمري ما رأيت سحنة الحراس مخيفة مثل اليوم .
المرأة الأولى : سحنتهم دائماً مخيفة ولو لم ينظروا إلينا .
الرجل الأول : ( بما يشبه الحنق ) أرأيت إن كان ضروريا أن نسأل ! .
الرجل الثاني : لماذا لم تسألهم عن سبب الخلاف ؟.
الرجل الثالث : ولكنك تصرفت بفطنة أيها الرجل .
الرجل الرابع : وحق الله أخافهم مثلكم ... وشعرت قلبي يكاد أن يتوقف لكن أنظل كالعميان لا نعرف إلى أية مهاو تدفعنا الأحداث .
المرأة الأولى : ( بعنف ) إذا كنا عميانا ونحن بين أهلنا ، أفضل من أن نعمى في ظلال الزنزانات .
المرأة الثانية : بالله عليك كفي ... ألم تر بعينك ! سنشتري خبزنا ، وننزوي مع أهلنا في بيوتنا .
الرجل الأول : لدى السادة دائماً أسباب كافية للخلاف أما نحن فلا ناقة لنا ولا جمل ( لغط بين الزبائن ، ثم يتوضح ) .
زبون 1 : هو بعينه ..
زبون 2 : الشخص الذي كان مع المملوك .
زبون 3 : وما يزال يحمل السلم على ظهره .
زبون 1 : ( بصوت عال ) أخي نزل هذا السلم عن ظهرك .
الرجل الرابع : ( يقطع التمثيل ملتفتا إلى الزبائن ) آه لو أستطيع .
زبون 3 : هذه سوسة إذا سكنت الرأي صعب انتزاعها .
الحكواتي : ( يعلو صوته ، ليسيطر على الموقف ، فيمنع انقطاع خيط الحكاية بالنقاش ) وتناول الرجل العجوز الكلام ، فأورد ما علمته الأيام .
الرجل الثالث : سأقول لك شيئا ... عشت عمرا طويلاً يكفي لكي يتعلم المرء كيف تجري الأمور هنا . مهما اشتدت الخلافات بين سادتنا ، وفرقت بينهم المصالح ، فإنهم يظلون متفقين على شيء واحد ، أتعرف ما هو أيها الرجل الذي لا تنقصه الفطنة ؟.
الرجل الرابع : أتمنى أن أعرف ما هو .
الرجل الثالث : هو ألا نتدخل نحن العامة في شؤونهم وخلافاتهم . ولو فعلنا لتوحدوا فورا ، واتجهوا بكل قواهم نحونا .
المرأة الأولى : وبعدئذ تمتلئ السجون .
الرجل الثاني : ويختفي الرجل .
الرجل الرابع : وحق الله وأنا عشت طويلاً ما فات من العمر أكثر مما بقي ، أعرف أن ما تقوله صحيح أعرفه كما أعرف سجون بغداد وسياط جلاديها .
المرأة الثانية : هل كنت في السجن .
الرجل الرابع : أي وحق الله كنت فيه .
المرأة الأولى : ليس غريبا أن تعرف السجون ما دمت تحب كثيراً طرح الأسئلة .
الرجل الثاني : ( بانتصار ولوم ) أرأيت ... هذا كل ما يجنيه المرء في النهاية .
المرأة الثانية : وبما أنك خرجت اعتبر نفسك مولوداً ، وتعلم الابتعاد عن المشاكل .
الرجل الرابع : كنت مثلكم أعتقد أن هذا ما ينبغي أن يتعلمه الإنسان كي يجد طريق الأمان .
الرجل الأول : ثم وسوس لك الشيطان ، فبدلت اعتقادك ، فاستضافتك السجون .
الرجل الرابع : أي وحق الله قضيت فترة ليست قصيرة في السجون ، ومع هذا فقد ازددت يقينا بأن ما تقولونه لا يقود إلا إلى ما نحن فيه ، نهترئ كالنفايات ، ونجري قلقين كالكلاب الملدوغة ، وندفع ضريبة خلافات لا نعرف أسبابها ولا مغزاها . .
المرأة الأولى : تلك قسمتنا .
الرجل الثاني : ستعود حتما إلى السجن .
المرأة الثانية : تريد أن تودي بنا جميعا .
المرأة الأولى : أي والله هذا ما تريد أن تفعله .
الرجل الأول : نحن لا نحب السجون .
الرجل الرابع : وحق الله وأنا مثلكم لا أحب السجن ، ولا أتمنى أن أتذكره .
الرجل الأول : إذن اترك هذه الشؤون ، وابتعد عنها ما استطعت .
الرجل الرابع : إلا أني لا أحب أيضاً عيشة الكلاب التي أعيشها ، كما لا أحب أن أدفع رأسي ثمنا لاضطراب لا رأي لي فيه .
الرجل الأول : وماذا يستطيع أن يفعل مثلك ومثلي الخلاف يدب بين الخليفة ووزيره .
( هنا ينقسم الممثلون الخمسة إلى مجموعتين يتوزعان الحوار الشبيه بالمونولوج ، إنهم جميعا في مواجهة الرابع ... ) .
المجموعة 1 : مولانا الخليفة عنده حرأسه وقواته .
المجموعة 2 : وسيدنا الوزير له حرأسه وقواته .
المجموعة 1 : قد يقع الصدام بين لحظة ولحظة .
المجموعة 2 : فلماذا نرمي بأنفسنا إلى التهلكة ! .
المجموعة 1 : الخلاف بين وزير وخليفة .
المجموعة 2 : لكل منهما قصد وخطة .
المجموعة 1 : أما نحن فلا ناقة لنا ولا جمل .
الرجل الرابع : ( يحاول أن يحتفظ بهدوئه ) أراكم تنسون أيها الناس الطيبون أنهما يتعاركان فوق رؤوسنا .
المجموعة 2 : ننتظر ونرقب النتائج .
المجموعة 1 : ومن يتزوج أمنا نناديه عمنا .
المجموعة 2 : هذا هو ... من يتزوح أمنا نناديه عمنا .
( تتدافع من الزبائن تعليقات تختلط بها احتجاجات الرجل الرابع ) .
زبون 1 : والله ... عين الصواب .
زبون 2 : هذا مقال من يريد راحة البال .
زبون 1 : صرعة مالنا فيها .
الرجل الرابع : لا ... لن تنجو رؤوسنا .
زبون 3 : طريق مأمون من قديم الزمان .. من يتزوج أمنا نناديه عمنا .
الرجل الرابع : فوق رؤوسنا يتعاركان فوق هذه الرؤوس البائسة ستنزل أقسى الضربات ، إننا نتخلى عن رؤوسنا . نسلمها إلى الجلادين ، وأسوأ من الجلادين .
زبون 1 : انتبهوا يحرضكم على الفتنة .
زبون 3 : نوع من الرجال يحب إثارة المشاكل، لكي يتفرج بعدئذ على المشاكل .
المرأة الثانية : بالله عليك افتح جرابك الخطير بعيداً عنا .
الرجل الثالث : إذا شئت يمكنك أن تتصرف برأسك كما يحلو لك .
المجموعة : ( تقلد طريقته بالكلام ) وحق الله فكرة . لك رأس كسائر الناس فافعل ما يحلو لك ، واترك رؤوسنا لنا .
المرأة الأولى : ( صائحة ، تقف فجأة ) أتشمون ! رائحة الخبز .
أصوات : - الخبز .
- دوري أنا.
- أخيراً بعد هذا الانتظار.
( ينهضون جميعاً باستثناء الرجل الرابع ، الذي يتابعهم بعينين حزينتين يتدفعوا أمام شباك الفرن في هياج وتعجل ) .
صوت الفران : اتفقوا على الدور أولاً .
الرجل الثاني : لي بالتأكيد لي : تذكر ألم أكن أول من جاء يطلب خبزاً .
صوت الفران : ربما . ولكن المهم أن تكونوا بالدور .
المرأة الأولى : ( راضخة ، تقف وراء الرجل الثاني ) لم تعد هناك شفقة .
الرجل الثالث : ( يقف آخر الصف ، بينما يظل الرجل الرابع جالساً ) ليأخذ كل دوره ، ذلك أفضل .
( يبدأ الجميع بالانتظام في صف أمام الشباك كل واحد يشتري خبزه ويمضى ) .
الرجل الثالث : ( للرابع ) انهض وخذ دورك قبل أن يأتي من يأخذه .
الرجل الرابع : وحق الله . ليس هذا هو طريق الأمان .
الرجل الثالث : اشتر خبزك وتحصن في بيتك لن تصلح العالم على كل حال .
الرجل الرابع : إذن خذ مكانك ، واشتر خبزك .
( يشتري الناس خبزهم ويمضون مسرعين . يصبح الرجل الثالث عند الشباك فينهض الرجل الرابع متثاقلاً . ويقف وراءه منتظراً دوره ) .
زبون 2 : أي انهض أخي .. انهض ذلك أفضل .
(يشتري الرابع بضعة أرغفة ، يدسها في كيسه . ثم يلقي نحو الزبائن نظرة عاتبة وحزينة).
الرجل الرابع : ( وهو يمضى ) وحق الله . ليس هذا طريق الأمان .
الحكواتي : هذا ما كان من أهل بغداد ، من استطاع منهم اشترى خبزه ومضى مسرعا إلى بيته ، أما قصر الوزير محمد العبدلي فلم تكن تهدأ فيه الحركة ، مماليك ينزلون إلى المدينة ، ويعودون إلى الوزير بالأخبار يدخلون ديوانه ، ويخرجون مرتعدين يتبعهم السباب والصياح الغاضب ، لكن لا يمر بعض الوقت حتى يأتي الأمر بالنزول مرة.
أخرى إلى المدينة ، فيذهب من يتسقط الأنباء ، ويراقب مجرى الحال وشاعت في الأروقة أخبار وحكايات وكان الجميع يتمنون لو تظل الأحداث بعيدة عنهم . فلا تقربهم أو تصيبهم . لكن " جابر سمع خبرا سال له لعابه ، فجأة رأى الأبواب مفتوحة أمامه ، فاندفع يجري وراء أحلامه .
زبون : المملوك جابر نفسه .
زبون 2 : لابد أنه خبر هام حتى يهتم له جابر .
زبون 1 : هات يا عم مونس ما هذا الخبر ؟.
الحكواتى : انتظروا وسيأتي الجواب .
الخادم : ( منتهزا الفرسة يدور بموقد الفحم ) نارة .
زبون : هنا يا أبا محمد .
الخادم : حاضر .
( أثناء الحوار السابق ، يعود بنا المشهد إلى رواق في قصر الوزير .. يظهر المملوك ياسر طويل القامة ، وافر الصحة ، وجهه عريض تطفو على ملامحه بلادة توحي بالجلافة والطيبة . يمشي مهرولا ، حاملاً على وجهه أمارات الاضطراب والفزع يلتقي بالمملوك جابر ، ويكاد أن يصطدم به .
ياسر : يا حفيظ .
جابر : مالك يظن من يراك أنهم حشوا مؤخرتك فلفلاً أحمر .
ياسر : يا حفيظ تحدث في هذه المدينة أمور جسيمة .
جابر : ماذا أصابكم اليوم جميعاً ؟ لن تقول إنه يوم الحشر .
ياسر : لا أدري إذا كان يوم الحشر أم لا ، لكني أكاد لا أصدق أني خرجت من الديوان بسلام . ( يمسح العرق عن جبينه ) . شعرت روحي تنخطف من جسدي .
جابر ؟: أكاد أعتقد أن سيدنا الوزير تقمصه عفريت قل لي ... هل نبت في رأسه قرنان ، أم تدلى من فمه نابان ؟.
ياسر : أتمزح ! آه لو ترى وجهه وهو يتلون ويحتقن . نظر إلى وكأنه يريد أن يمسحني عن وجه الأرض . يا حفيظ لو تعثرت قدماي في الخروج لرمى عنقي دون تأخير ولو أعرف ما ذنبي هل أستطيع أن أكذب ، كل الناس يعرون أن أبواب بغداد أصبحت مسدودة ، وأن الحراس ينتشرون عليها كأنهم جند الموت ؟.
جابر : أي حراس .
ياسر : حراس مولانا الخليفة يا حفيظ أن أحداثا رهيبة تقع حولنا . سمعت أن الخليفة لم يغادر البلاط هذه الليلة ، ولم ينم لحظة واحدة . .
جابر : ولم ؟ هل خاف أن يجردوه من سرواله وهو نائم .
(يقترب منهما منصور ، وينضم إليهما ) .
ياسر : بل كان ... ( يتوقف فجأة ، وكأنه اكتشف شيئاً مزعجاً ) يا حفيظ ما زلت تمزح ؟.
جابر : الطاعون يفتك ببغداد يا منصور أصبحت الرعية كلها تشتغل بالسياسة .
ياسر : ( فزعا ) أأنا أشتغل بالسياسة ! كنت أروي ما سمعت لا أكثر .
منصور : لا تلق بالا إليه ألا تعرف لسانه ، ألديك أنباء جديد ؟.
ياسر : كل الناس يقولون ... إن مولانا الخليفة لم ينم لحظة واحدة هذه الليلة ( يخفض صوته ) ظل مجتمعا بقواد الأمن حتى الصباح .
منصور : كنت أعلم أنها لن تنتهي ببساطة .
ياسر : يبدو أنهم اتخذوا قرارات خطيرة فمع طلوع النهار خرج الحراس من القصر يحملون عتادهم ، وكأنهم يمضون إلى الحرب . اخترقوا الشوارع فأرهبوا الناس ، ثم انتشروا على أبواب المدينة ، أصبح الخروج من بغداد أصعب من دخول الجمل في ثقب الإبرة . جابر : إجراء يوفر على الخليفة بناء سجون جديدة .
منصور : أرأيتهم بعينيك ؟.
ياسر : رأيتهم ! يا حفيظ . منذ قليل كنت هناك سيدنا الوزير منزعج للغاية ، أرسلني كي أتجسس له ، وأخبره بما يجري على الأبواب ، وعندما أخبرته غضب مني ولكن ماذا أفعل ؟ هل أستطيع أن أكذب ؟ وصفت له ما يحدث دون زيادة أو نقصان . رأيتهم بعيني بقفون على كل الأبواب .
ويفتشون كل من يحاول الخروج تفتيشا أدق من حساب الآخرة يا حفيظ ، يرتعد المرء كأنه أمام الموت ، لا يتركون جيبا أو ثنية . جردوا بعض الناس من ملابسهم ومزقوا بطانتها ، والويل لمن يتباطأ أو يحتج .
جابر : والنساء أيضاً ! .
ياسر : لا يفرقون بين رجل وامرأة .
جابر ( عابثا يقلد ياسر ) يا حفيظ.
منصور : إذن يتوقعون أن يتسرب شيء هام من بغداد .
ياسر : هام وخطير .
هناك رسالة تحوم راغبة في الخروج .
منصور : أهو سيدنا الوزير؟.
ياسر : لم يعد ذلك سراً ... عندما علم بأمر الحراس وإغلاق المدينة احمر وجهه ، وتدافعت من فمه الكلمات يا حفيظ ، الغضب عدو الحذر .
منصور : هذه المرة ستمضي الفتنة إلى نهايتا .. قل لي .. أتعرف إلى أين سيبعث الوزير رسالته ؟.
جابر : تسأله وكأنه كاتم أسرار الدولة .
ياسر : يا حفيظ .. ومن أين لي أن أعرف ! كل ما أستطيع تأكيده هو أن الرسالة هامة وخطيرة للغاية ، كاد الوزير أن يصاب بالفالج عندما علم بإجراءات مولانا الخليفة ، لا شك أنه يعطي أي شي من أجل وصول هذه الرسالة .
جابر : ( ينتبه .. ويبدأ اهتمامه بما يحكي ) ماذا قلت ؟.
ياسر : ( كأنه فوجئ ) ماذا قلت ؟.
جابر : أعد .. أعد ما قلته .
ياسر : إنك تربكني .. قلت إن سيدنا الوزير يعطي أي شيء من أجل وصول هذه الرسالة.
جابر : ( ساهما ) يعطي أي شيء ! .
منصور : الحوادث تجري بسرعة ، ولا أحد يعلم ما يدبر حولنا .
جابر : هل وعد سيدنا بمكافأة معينة ؟.
ياسر : مكافأة ! أتقول مكافأة ! من يخرج بهذه الرسالة يستطيع أن يتمنى على سيدنا الوزير ما يشاء .
جابر : أيرفعه مرتبة لو طلب ذلك ؟ .
جابر : ( والبريق يشتد في عينيه ) يعطيه كيسا مليئاً بالذهب ؟ .
ياسر : يعطيه أكياساً ... ولكن من يجرؤ على المخاطرة ! يا حفيظ ... سيصبح حاملها جثة قبل أن يخطو خطوة واحدة خارج بغداد . .
منصور : ولك جابر ... أراك تهتم بالأمر ماذا يدور في ذهنك ؟.
جابر : يدور شيء باهر يا منصور ، ولكن انتظر .. لتر مرة أخرى كيف يتم التفتيش ؟.
ياسر : لا تسأل عن التفتيش .. قلت لك أدق من حساب الآخرة . ينبغي أن تذهب وترى بنفسك يا حفيظ ... لا يتركون شيئاً على الإطلاق . رأيتهم بعيني يمزقون رغيف خبز نتفة ، نتفة ، خشية أن يكون فيه شيء مخبوء ، الثياب والأحذية .. وفوق ذلك الاستجوابات الدقيقة ، لا .. لا .. تأمل شيئاً ، الهواء نفسه لا يستطيع أن يمر من بين أيديهم .
جابر : مع هذا قد تكون الحيلة أبرع من الهواء .
منصور : ( لاهثا ) جابر - بماذا تفكر ؟ .
جابر : أفكر بأشياء يا منصور أشياء مثيرة يختلط فيها وهج الذهب وعطر زمرد وعلو المقام ( إلى ياسر ) أمتأكد أنت سيدنا الوزير لن يرد طلبا لمن يحمل رسالته؟ .
ياسر : متأكد كوجودي يا حفيظ .. ربما كان مستعدا لأكثر من ذلك .
جابر : سأبحث عن الإلهام يا منصور إني بحاجة إليه الآن . ألم أقل لك .. قد نقبض بدلاً من أن ندفع . إذا ظل رأسي ملتهبا كما هو الآن ، فلن تضيع الفرصة .
منصور : لا تكن أحمق .. رغم كل شيء لا أريد أن يصيبك سوء إنك تتبع غواية مهلكة .
جابر : كل شيء يتعلق بهذا اللهيب الذي اتقد به رأسي فجأة اشملني بدعواتك وأنت تصلي .. ( ويمضى مغنيا وسط ذهول الآخرين ) . عندما أصبح للمسلمين خليفة . سأسميك وزيراً للدولة . عندما أصبح للمسلمين خليفة .. سأسميك وزياً ... ( ويختفي بعيداً ) . .
منصور : أي جنون ! .
ياسر : ( تغلف وجهه البلاهة ) أتعتقد أنه .
جاد ؟.
منصور : إنك لا تعرف إذن .
ياسر : يا حفيظ .. لو رأى الحراس لخاف من مجرد التفكير .
منصور : ( وهو ينصرف ) اللهم أتم علينا خير النهاية .
ياسر : ( يتوقف لحظة شبه مذهول ، ثم ينصرف بدوره ) يا حفيظ ..
( يخرج الاثنان حاملين معهما قطع الديكور ) .
الحكواتي : والمملوك جابر ذكي وذكاؤه وقاد . لمح الفرصة تواتي ، فانقض عليها بلا تراخ . يؤمن أن الفرصة قد لا تأتي مرتين . وسر الفطنة ألا تحتاج الفرصة مرتين . وإن أسعفه الخيال ، صارت الأماني سهلة المنال . ماذا يعنيه ما يجري في بغداد ما دام هو الرابح في الختام ؟ ونزل إلى أبواب المدينة مرات وعاد ... وأعمل الفكر ، ونقب عن حيلة أو سر . وجابر ذكي وذكاؤه وقاد . إذا أكد ذهنه فهو لا ريب بالغ مراده .. ولم يزل في تفكير حتى وجد التدبير . عندئذ أشرق وجهه بالسرور ، وطلب بالعجل الدخول إلى الوزير .. ( خلال كلام الحكواتي توضع قطع ديكور تمثل ديوان الوزير قاعة فاخرة الرياش والأثاث . يظهر في الديوان الوزير ومعه أحد أصحابه ) . إنه عبد اللطيف أحد أمراء بغداد ذوي الغنى والنفوذ . الوزير تجاوز الأربعين ، وهو بدين ، وفي تقاطيع وجهه لؤم قديم ومزمن . منقبض الأسارير ، يمور في عينيه حقد كظيم .. يبدو شديد القلق والانفعال .. يجلس لحظة ، ثم ينهض بعصبية فيدور في أرجاء القاعة وبحركة لا إرادية يمد شفته السفلى ، فيتناول شعرة من شاربه يقضمها بأسنانه . ثم يتف .. ومن حين لحين يخرج من جيب صدريته علبة نشوق ، فيتناول بين إصبعيه قليلا منها يدسه في فتحتي أنفه ، ويعطس .. نراه يفعل ذلك مرتين على الأقل قبل أن يدخل عليه الحارس .. عبد اللطيف هو الآخر لا يقل عصبية عن الوزير ، لكنه يحاول أن يتماسك في مقعده ( يدخل الحارس ويقترب من الوزير ) .
الحارس : سيدي .. على الباب واحد من مماليككم يطلب المثول بين أيديكم .
الوزير : ماذا يريد ؟.
الحارس : لم يفصح عن قصده لكنه يلح في مقابلتكم على انفراد .
الوزير : ( بحركة ضجرة ) دعه ينتظر .
الحارس : سمعا وطاعة . ( ينسحب من الديوان ) الوزير : ( وهو يدور قاضما شاربه بأسنانه ) والآن ...
عبد اللطيف : لنعترف أنهم كسبوا نقطة . لم يتخيل أحد أن الخليفة سيتحرك بهذه السرعة .
الوزير : ( بعنف ) أما أنا فقد تخيلت منذ فترة وتحركات أخيه عبد الله تزداد وتتسع . وهو الدماغ الذي يدبر كل شيء . اتصالات بكبار التجار . رسائل إلى الولايات . اجتماعات سرية بالخليفة ، ( يتحول صوته صياحا ) كان ينبغي أن نتوقع ضربة مفاجئة على رؤوسنا .
عبد اللطيف : هوت الضربة قبل أن نجد الفرصة لتوقعها .
الوزير : كانت لدينا كل الفرصة ، ولو أصغيتم إلى لما فقدنا المبادرة .
عبد اللطيف : من كان يعلم أن الأحداث ستجري بهذه السرعة ؟.
الوزير : لا .. لن تأتي الآن لتقول لي من كان يعلم . نبت الشعر على لساني وأنا أستحثكم . كان واضحا أنهم يريدون تصفيتي وتشتيت الأمراء المؤيدين لي ، وأنت على رأسهم . ذلك سبيلهم الوحيد كي ينفردوا بالحكم ، ويدبروا الدفة على هواهم لا .. لا تقل لي من كان يعلم الأوراق مكشوفة حتى قبل انفجار الأزمة الأولى . ولولا ترددكم لا بتلعهم إبليس قبل أن يجدوا الوقت لتطويقنا . عبد اللطيف : ليس سهلا أن تطلب غزوا أجنبيا دون تقدير جيد للموقف . أنت تعرف ماذا يعني الجيش الغازي عندما ينتصر . إنه خراب طائش ، قد تستحيل السيطرة عليه . الوزير : ولكن الجيش الغازي يأتي ليحمي مصالحنا ، ويجهز لنا كرسي السلطة . فماذا يهمنا بعد ذلك بالتأكيد سيكون هناك خراب . لن يدخل الجيش بالدفوف والغناء ، ولن يوزع الورود والعطور . هذه حرب .. سيقتلون ويخربون . طبعا لمن يبقي من ذرية الخليفة حي ، وستصبح قصوره خرائب كما لن يوفروا المدينة . هي الأخرى سينهبونها . على أي حال هذه ضريبة الانتصار. أما نحن فماذا يخيفنا ؟ ليدعموا لنا السلطة . فهل نطلب أفضل من ذلك .
عبد اللطيف : المهم ... كان لا بد من دراسة الظروف المحيطة بنا .
الوزير : ليست الظروف المحيطة بنا لغزا مستعصيا. الصراع واضح الأبعاد . وأمامنا اختياران لا ثالث لهما . إما أن تقبل تصفيتنا أو نطلب عونا خارجيا يحسم الصراع عبد اللطيف : أنت نفسك تمهلت ، ووافقت على أن الأمر يحتاج إلى استعداد .
الوزير : بالتأكيد .. كان ضروريا أن نضمن ولاء عدد من القواد ،.
وأن نتخذ بعض الترتيبات ، كيف نغريهم بالغزو إن لم نضمن لهم النصر هنا ! .
عبد اللطيف : على كل حال .. لا فائدة الآن من تبادنا اللوم . لقد حزمنا الرأي في النهاية . وأجمعنا على أن تبعث الرسالة . .
الوزير : ( يتناول نشوقا ، ويعطس ) نعم .. حزمنا الرأي عندما أفلتت من أيدينا المبادرة ( يعطس مرات متلاحقة .. ويسود قليل من الصمت المتوتر ) . .
عبد اللطيف : قل لي .. هل تعتقد أنهم اكتشفوا خطتنا ، أم هي مجرد احتياطات وقائية ؟.
الوزير : من المؤكد أنهم يرتابون ، عند عبد الله جهاز من العملاء والمخبرين أن الفرقة التي استخدموها لإغلاق بغداد هي فرقة القصر التي يشرف عليها عبد الله بنفسه أي الفرقة التي ليس لنا فيها أعوان ربما لا يعرفون الخطة بتفاصيلها ، ولكن من المؤكد أنهم يرتابون ، ويحتاطون لكل احتمال . .
عبد اللطيف : إذا كانوا يعرفون حقاً ، فسيعجلون إذا بالصدام ، وقد تكون تلك خطوتهم الأولى .
الوزير : الصدام لا ... ( ينشق ويعطس ) لن يقامروا الآن عبد الله دقيق في الحساب . وهو يعرف أن النتائج غير مضمونة . ( لحظة ) خطوتهم التالية مكشوفة . سيحاولون قبل كل شيء الاتصال بحكام الولايات ، وضمان الإمدادات ، سيقدمون كل التنازلات التي يطلبها الولاة ، سيمنحونهم الاستقلال إذا لزم الأمر مقابل أن يضمنوا وصول القوات أما قبل ذلك، فلن يقامروا بالصدام . سيكون أمامنا فترة من الترقب ، والهدوء المحتقن . .
عبد اللطيف : ومع ذلك من المفيد أن نتخذ بعض الاحتياطات . هناك دائما مفاجآت غير محسوبة . ومن يدري قد تستغل العامة هذه الظروف ، فتشعل نار الشغب ، حينئذ لا أحد يعرف كيف يتحول الموقف . .
الوزير: ( باحتقار ) العامة ! ومن يبالي بالعامة ؟ ..لا هؤلاء لا يثيرون أية مخاوف ، يكفي أن تلوح لهم بالعصا حتى يمحوا ، وتبتلهم ظلمات بيوتهم . .
عبد اللطيف : وخطيب الجامع ! أي موقف سيتخذ في رأيك ! إذا شاء يستطيع أن يهيج العامة ، وأن يلعب دور مؤثراً لا أكتمك ... أنا لست شديد الثقة به . .
الوزير : لا تخف .. أعرف خطيب الجامع أكثر منكم . إنه دقيق النظر ، وبعيد في حساباته ، لا يورط نفسه ، ولا يمشي خطوة إلا إذا كان واثقاً أن خط الرجعة مأمون . ستكون خطبة الجمعة أدق من إبرة الميزان . سيختار كل كلمة بحيث لا يوحي بأي انحياز ( تعبير ازدراء على وجهه ) لا .. كل هذه المسائل ثانوية ، ولا ينبغي أن نضيع وقتنا فيها . أمامنا فترة قصيرة من الهدوء . لكننا في سباق مع الوقت . لو نجحوا في اتصالاتهم قبلنا ، فلن تكون السيوف رحيمة . سيقطعون رؤوسنا واحدا بعد الآخر . وسيعلقونها في ساحات بغداد كمشاعل النصر . أتسمع ! رأسي ، رأسك ، ورؤوس الآخرين ... ستعلق في الساحات ، والدم يقطر منها على وجوه الراقصين حولها . إننا في سباق مع الوقت لمبادرة في أيديهم هذا هو وضعنا . .
عبد اللطيف : وضع دقيق تحفه المخاطر . كل شئ مرهون بالرسالة ، ولكن .. .
الوزير : ( مقاطعا بحدة ) دعنا من هذه الـ " لكن " إذا لم تخرج الرسالة من بغداد فقل علينا جميعاً السلام . قضية حياة أو موت . ينبغي أن تنفذ الخطة مهما كان الثمن لم يعد مهما . سنقبل كل المخاطر ، كي تخرج الرسالة من بغداد . .
عبد اللطيف : ألديك اقتراح معين ؟ .
الوزير : لنعقد اجتماعاً هذا المساء . لا مجال للاختيار . أما أن ننفذ الخطة أو ننتهي .
عبد اللطيف : ( بعد لحظة ) فكرة معقولة . ربما كان لدى الآخرين اقتراحات نافعة . .
الوزير : لابد أن نجد مخرجاً .
عبد اللطيف : هل ندعو الجميع ؟ ( يدخل الحارس ) . .
الوزير : نعم .. الجميع .. ولا تنس أن جواسيس عبد الله ينتشرون حولنا كالذباب .. ( لحظة ) هـ ...كسبوا نقطة ، إلا أنهم لم يكسبوا الجولة ، ولن يكسبوها ما دمت حيا . .
الحارس : ( مرتبكاً وخائفاً) سيدي .. المملوك يلح كثيراً في الدخول عليكم . يزعم أن لديه أمراً هاماً لا يقبل التأجيل . .
الوزير : ( غاضباً ) يلح .. يلح ... ماذا يريد هذا الغراب ؟ .
الحارس : لا أعلم يا سيدي .
عبد اللطيف : طيب ... سأمضى الآن .
الوزير : لا تنسي أنهم يشددون الرقابة أيها الأمير . .
عبد اللطيف : كن مطمئنا . .
الوزير : ( بعد فترة ) دع هذا الغراب يدخل . سأجعله عبرة إن كان يدخل على لشأن تافه . .
الحارس : ( وهو يتراجع بانحناء ) سمعا وطاعة ( عندما يصل إلى الباب . ينادي ) ... ليدخل مملوك سيدنا الوزير .
( يدخل جابر . قسمات وجهه يتراقص عليها الفرح . في عينيه تتوهج النظرة الذكية ، يبالغ في الانحناء ويزيد في مظاهر الاحترام ، حتى ينكشف النفاق واضحاً ) . .
(جابر : لا يزال ينحني ) السلام على مولاي وولي نعمتى وزير بغداد المعظم . .
الوزير : ( بإهمال ) ألست المملوك الطويل اللسان جابر !.
جابر : أطال الله عمر سيدنا الوزير وقصر عمر أعدائه ، هو أنا مملوككم جابر . .
الوزير : ( يتناول نشوقه ) هيا .. ولا تطل على الثرثرة . ويلك إن كنت تدخل على لأمر تافه . .
جابر : ( فيما يبدأ الوزير يعطس ) حاشا يا مولاي .. ورب الكعبة ، حين علمت أن سيدنا الوزير مكدر البال ، تكدر بالي ، وضاقت بي الأرض حتى صارت كالكشتبان .
الوزير : ( بدأ يغضب ويزوي ما بين حاجبيه ) أجئت تبثني .
العواطف ! إن كان لدي ما تخبرني ، فقله وأوجز لا يدخل على واحد منكم إلا بأخبار السوء ، وخلقه يتعوذ بها البوم . .
جابر : لا عشت إن حلمت لسيدنا الوزير ما يسوءه. جئت ألبي له حاجة إن كان هناك ما يحتاجه .
الوزير : ( يدقق النظر ) تلبي لي حاجة ‍ ومتى كان فيكم خير ما إن ألواح لواحد بمهمة حتى يبدأ بالارتجاف كأنه مقبل على الموت . .
جابر : ها أنذا قدام مولاي ، حياتي رهن إشارته ، وفي المواقف العسيرة لانعدم حيلة . .
الوزير : أعرفك طويل اللسان .. فأفصح عما في نفسك حالاً ، جئت تتملقني ، أم تخبئ شيئا وراء ما تقول ؟ .
جابر : عندما يمتحنني سيدي يعرف إن كان تملقا ما أقول . .
الوزير : هل تعرف المهمة التي أبحث لها عن رجل ، يحملها ويخاطر من أجلها ؟ جاد : لا ينبغي أن أدس أنفى فيما لا يعنيني . ولكن حين علمت أن سيدي مكدر البال ، انشغل فكري ، وبدأت أسأل عن السبب ، حلمت أنا العبد المملوك أن أعمل شيئاً يبدد كدره ، وينيله أريه .. وبعد بحث وطول ، عرفت أن ما يشغل سيدنا هو رسالة يريد أن تخرج سالمة من بغداد .
الوزير : أصبح أمرنا مشاعا في كل المدينة . .
جابر : ليغفر لي سيدي هذا الفضول ، ما قصدت أن أدس . .
الوزير : ( مقاطعاً ... وقد أثير اهتمامه ) لا عليك أيها المملوك ، فات أوأن الحرص ، ما يهمنا الآن أن نجد رجلاً يحمل المهمة ، ولو اجتاز في سبيلها الأهوال . .
جابر : قدامك يا سيدي . .
جابر : أي والله رأيتهم يا مولاي . أعوذ بالله .. لا نجاة من أيديهم حتى ولو لبس المرء قبعة الخفاء . يفتشون الداخل والخارج كأنه في يوم الحساب ( يتمهل .. يخفض صوته ، ويقرب وجهه من الوزير ) ومع هذا .. فسنسخر منهم . ونجعلهم أضحوكة بغداد لأعوام وأجيال .
الوزير : ( منفعلاً .. يعطس ) نسخر منهم .. ماذا تقول أيها المملوك ؟ إن كنت تعبث فسأصنع من جلدك طبلاً ودربكة هيا .. أخبرني كيف تريد أن تسخر منهم . هل وجدت تديبرا نافعاً . .
جابر : التدبير جاهز يا مولاي .
الوزير : ( لشدة انفعاله ، يتناول نشوقه أيضاً .. ) هات ما لديك بالعجل ، إن كان ما تقوله صحيحاً . .
جابر : ( بابتسامة خبيثة ) إن كان ما أقوله صحيحاً ؟ .
الوزير : فسأجزل لك العطاء .
جابر : لا أبتغي إلا مرضاه سيدي ، إلا أني أجد نفسي ضعيفاً أمام كرمه . .
الوزير : لا تساوم ، سأعطيك ما تريد . .
جابر : أيمن على عبد بمركز يرفعه من ضعته ؟ .
الوزير : أعطيك ما تريد لو بلغت رسالتي .. .
جابر : ويكرمني فيزوجني زمرد خادمة سيدتي شمس النهار ؟ .
الوزير : ( نافذ الصبر ) هي لك .. وفوقها مال كثير ، ولكن أرنا أولاً تدبيرك . .
جابر : ينحني مقترباً من الوزير .. لهجة بطيئة مع تشديد على الكلمات ) إني أهبك رأسي يا مولاي . .
الوزير : تهبني رأسك ؟ وماذا تريدني أن أفعل برأسك ؟ مرة أخرى أحذرك أيها المملوك . إن كنت تعبث فسأجعل من جلدك طبلاً ودربكة . .
جابر : لو لم يكن رأسي نافعاُ ما قدمته لمولاي .. .
الوزير : وما نفعه لي ؟ .
جابر : راقبت الحراس ساعات طويلة يا مولاي . رأيتهم كيف يفتشون ، وكيف تتغلغل أصابعهم كالثعابين في كل شيء يمزقون الثياب يقطعون الأحذية يؤلمون الناس وهم يغرسون أظافرهم في كل بقعة من أجسادهم . البطون والظهور .. وأحياناً ما بين الأفخاذ .. ولكن أحد منهم لم يخطر بباله أن يفتش تحت شعر الرأس . .
الوزير : ( ببلاهة ) وماذا سيجدون تحت شعر الرأس سوى القمل والبراغيت ؟ .
جابر : قد يجدون الرسالة التي يفتشون عنها يا مولاي . .
الوزير : ( مندهشاً .. تتوقف يده التي تبحث عن بعض النشوق .. ) الرسالة ؟ ( لحظة تلتقي فيها العيون وهي تبرق ) أتعني ‍ .
جابر : نعم يا مولاي ... ( يلتفت حوله بحذر ) أرجو ألا تكون حولنا آذان فضولية . .
الوزير : من يجرؤ على الاقتراب من الديوان . .
جابر : إذن إليكم التدبير .. ننادي الحلاق ، فيحلق شعري ، وعندما يصبح جلد الرأس ناعما كخد جارية جميلة ، يكتسب سيدنا الوزير رسالته عليه . ثم ننتظر حتى ينمو الشعر ويطول فأخرج من بغداد بسلام . .
( يلهث الوزير منفعلاً . يشع النشوق في أنفه ... ولشدة انفعاله لا يعطس .. فيصبح .
وجهه كالقناع المدعوك . تثور همهة ، وتعليقات بين الزبائن .. ).
زبون : يحرز دينك .
زبون 2 : من أين وجدها ؟.
زبون 3 : الله يحميه .. يا عيني عليه .. ما هذه الفطنة .
زبون 1 : أي هيك تكون الرجال . مثله يستطيع أن يلعب بدولة .
زبون 2 : ابن زمانه .. قلت لكم منذ رأيته أول مرة ، هذا ابن زمانه . .
الوزير : ( يحاول التخلص من انفعاله ) انتظر .. انتظر .. نحلق شعر رأسك أولا .
جابر : أي نعم .
الوزير : ثم نكتب الرسالة عليه .
جابر : أي نعم .
الوزير : وننتظر حتى يكتسي الرأس مرة أخرى بالشعر ، وتختفي تحت سواده الكلمات .
جابر : أي نعم .. ( يبحلق الوزير فيه بعينين مندهشتين ، وكأن ذهولا قد ألم به فجأة يعطس بشدة ) .
زبون 3 : يبدو الوزير وكأنه لا يصدق .
زبون 2 : فكرة تساوي كنزا .
الوزير : ( مقتربا من جابر ، وفي وجهه خلف الذهول حنان ) والله وجدتها أيها المملوك .
جابر : ( بنظرة ذات معنى ) لعل مولاي لا يندم على وعوده ، ما دام قد أعجبه تدبير مملوكه .
الوزير : ( عيناه سارحتان ، يخفق فيهما فرح وتشف ) لا تخف .. الوعود محفوظة .
( بعد أن يلقي بإهمال هذه العبارة يدور في أرجاء القاعة ، وكأنه يتابع عينيه السارحيتين ) .
زبون 3 : منذ قليل كان يبدو كفأر في مصيدة .
زبون 2 : بعد تدبير جابر تغير الحال .
الوزير : كسبوا نقطة .. ربما .. ولكن ها أنذا أكسب الجولة . تسلمنا المبادرة منهم ، وإني أمسك المنتصر وأخاه في قبضتي .. وسأعصرهما .. ( بشدة قبضته ) حتى يصبحا عجينا فاسدا . ستكون المفاجأة ، ولنتحسس جيدا مواطئ أقدامنا . .
جابر : ( متعجلا ) هل يأمر مولاي بالبدء . كلما أسرعنا كان ذلك أفضل .
الوزير : ( ينتبه من شروده ) حقا .. ينبغي ألا نضيع دقيقة واحدة . إننا في سباق مع الوقت .. ( يقف قبالته . وينظر إليه بإعجاب وفرح ، ثم يمد يده إلى رأسه ، ويعبث في شعره بحركة غريبة ) سيكون لتدبيرك شأن في المستقبل أيها المملوك جابر .
جابر : ما يهمني هو أن يكون مولاي راضيا ، وأن يشملني عطفه وكرمه . .
الوزير : ( باسما ) خلف المقال أنت لجوج . كأنك تشك في عهودي .
جابر : معاذ الله ..
الوزير : قلت لك .. عندما تبلغ الرسالة نعطيك من المراكز ما تريد . وفي بغداد ستنتظرك المرأة التي تشتهي ، وكوم من المال . .
جابر : أمد الله في عمر مولاي ، وجعل أيامه موصولة بالظفر والمسرة ..
الويز : والآن ... إلينا بالحلاق ...
جابر : أجل .. إلينا بالحلاق .. وليحمل من الأمواس أحدها .
( يخفت الضوء في القاعة ، بينما يشتد على الكرسي التي يجلس عليها الحكواتي . سيتم المنظر على شكل تمثيل إيمائي وطقسي .. فالحركات ذات إيقاع بطيء ، يزيدها صمت الممثلين ثقلا ، حتى لتصبح شبيهة بطقوس غامضة ، وسحرية . تمتزج الحركات بكلام الحكواتي ، وتشكل معه ما يشبه اللحن الحزين ) . .
الحكواتي : وطلب الوزير أن يحضر الحلاق في الحال . وأن يحمل معه من الأمواس أشدها بريقا ، وأمضاها حدا . وعلى الفور جاء الحلاق إلى الديوان يتبعه ثلاثة من الغلمان . ( يدخل الحلاق ووراءه الغلمان الثلاثة . يسيرون بخطوات موزونة ، بطيئة ، بالغة التأدب ، يلبسون ثيابا ناصعة البياض ، ويحملون معدات الحلاقة . أحد الغلمان يحمل كرسيا عاليا ومسندا للقدمين . والثاني يحمل حقيبة فيها عدة الحلاقة وبعض المناشف . أما الثالث ففي يديه دورق وطشت من الفضة الخالصة ، يتقدم الجميع نحو منتصف الديوان . وبين الفينة والفينة لا ينسون أن ينحنوا باتساق ، وبشكل احتفالي . عندما يصلون إلى حيث يقف الوزير وجابر ، ويبدأون في الإعداد للحلاقة . يوضع الكرسي في مواجهة الجمهور ,أمامه المسند الجو ثقيل بطابعه الاحتفالي .. ).
الحكواتي : وقال الوزير مملوكه جابر حتى أجلسه على الكرسي العلى ، فاستقام ظهره فوقها ، وامتلأ بالزهو . وكانت عيناه تبرقان ، وتدغدغ مخيلته الأحلام . فتح الحلاق حقيبته . أخرج موسا له بريق ، ومعه مسنه الجلدي . وراح يسن الموس .. " اشحذ موسك أيه الحلاق .. اشحذ حتى يصبح كالومض البراق .. الرأس الذي ستجز شعره له في هذا الزمن المضطرب دوره .. فاصقل .. حد الموس حتى يصبح كالومض البراق " .. وكان الصبية يهيئون كل ما تحتاجه حلاقة يشرف عليها الوزير بنفسه ، ولما صار الموس ذا حد يفري الحديد ، تناول الحلاق برقة رأس المملوك جابر . فارتخت عضلات رقبته ، واستسلم هادئا بينما سرت في العينين نشوة كالحلم .
الوزير : ( منفعلا هذا الراس له قدره عندي .. أريدك بارعا كما عرفتك . احلق الشعر من الجذور . من أعمق منابته .. أريد أن يصبح رأس مملوكي جابر أكثر نعومة من خدود العذراى .
الحلاق : ( منحنيا في طقسية ) سمعا وطاعة .
الصبيان : ( وهم يصطفون وراء الحلاق متهيئين لك خدمة .. بصوت غنائي رقيق خافت أثناء الحلاقة ) . " يا معلمنا احلق ونعم الحلاقة . خل الرأس يصير مثل خدود العذراى يا معلم الحلاقين .. بفن ومهارة .. خل الرأس يصير مثل خدود العذارى " .
الحكواتي : ( على صوت الغناء الرقيق الخافت ) وأخذ الحلاق يحز شعر المملوك جابر . ولخفة يده ومضاء حد موسه ، لم يكن جابر يشعر إلا ببرودة لطيفة تشبه الأنسام، وترتخي لها الأجفان . وتساقطت خصلات الشعر .. خصلة بعد خصلة تساقطت .. وبان جلد الرأس .. يد الحلاق ماهرة رشيقة ، تتحرك فيلتمع الجلد.
الوزير : نعم يا حلاق .. نعم ما استعطت .
الحلاق : ( منحنيا للوزير ) سمعا وطاعة ..
الصبيان : خل الرأس يصير مثل خدود العذراى ..
الحكواتي : وشعر جابر برأسه يعرى . أحس بالبرودة ، لكنه لم يرتعش ، ولم تضطرب عيناه ، بل ظلت النشوة تختلج فيهما ، والموس .
يروح ويجئ ، حتى صار لرأسه لمعان المرايا . .
( تسقط حزمة ضوء على رأس جابر ، فينبثق منه لمعان ) . .
الحلاق : ( يعطر الرأس ، ويمسح عليه فتنزلق أصابعه ... ) نعيماً .. ( ثم يلتفت إلى الوزير ) نعيماً لمولانا ومملوكه . .
الصبيان : نعيما لمولانا ومملوكه . .
الوزير : ( يتحسس هو الآخر رأس المملوك جابر ، فتثيره نعومته ) عظيم .. عظيم .. أصبحت تغار من رأسك خدود أجمل العذارى ( ثم يلتفت إلى الحلاق وصبيته ) انصرفوا الآن ( بعد أن يجمع الحلاق وصبيته أدواتهم ينسحبون وهم يتمتمون : " نعيماً لمولانا ومملوكه ، مكررين نفس الطريقة الطقسية التي دخلوا بها ) . .
جابر : ارتعش من السعادة ، إذ يسبغ مولاي على رأسي الوضيع هذا الاهتمام .
الوزير : رأسك يساوي مملكة يا جابر . .
جابر : هو لك يا مولاى ( لحظة حتى يخرج الحلاق من الباب ) والآن ... ابحث يا مولاي عن ريشة وحبر لا يمحى إلا بالحفر .
الوزير : ( منفعلاً ) هذا ما سنفعله بلا إبطاء . .
ويبتسم ابتسامة طويلة تغص بالمعاني .. يأتي الوزير ومعه الدواة والريشة ) . .
جابر : بين يديك يا مولاى . .
( يركع جابر بحركة بطيئة ووجهه للجمهور ، بحيث تبدو واضحة كل الانفعالات التي يمكن أن تعبره . يأتي الوزير بكرسي منخفض ، ويجلس خلف جابر واضعا الدواة قربه ، يمسح مرة أخرى على الرأس الذي يلمع تحت الأضواء . ثم يغط ريشته بالدواة في الكتابة . عندما يضع الريشة على رأس جابر تتلقص ملامحه تحت تأثير الوخزة ، لكنه يتحمل ، وتخفق عيناه ) . .
جابر : ( ووجهه يتلقص ) آه ليت مولاى يختار من الكلمات ألينها وأكثرها إيجازاً . .
الوزير : لا تخف سأوجز في الكتابة ما استطعت . .
( من حين لحين يتوقف الوزير لحظة ، يفكر فيها باحثاً عن كلمة ، ثم يعود إلى الكتابة ) . .
جابر : ( متلقصا من الألم ) هذه الكلمة أحسها تنغرز في دماغي ، ليت مولاي يجد كلمة أخرى . .
الوزير : انتهيت تقريباً . .
( ينهي الجملة التي يكتبها . يضع الريشة ، ويغلق الدواة ، لكنه يتوقف فجأة ويسهم مفكراً ) . .
جابر : بعد أن فرغ مولاي من كتابة رسالته ، هل يسمح لي بالنهوض . .
الوزير : ( ساهما ) لا .. لا .. انتظر قليلاً . .
( ينهض ، ويذرع الديوان جيئة وذهاباً . يتناول نشوقا ويعطس ) . .
الحكواتي : وفكر الوزير كانت هناك حاشية ناقصة فيما يبدو وتردد .. عطس وتردد . وبعد أن اجتاز الديوان مراراً في غدو ورواح ، التمعت عيناه ، وعاد يجلس على كرسيه . .
الوزير : انتظر .. انتظر .. هي جملة وننتهي . .
_ يكتب الوزير جملة جديدة ، وينقبض وجه جابر من الألم ) . .
الوزير : ( يربت على كتفه بابتسامة ) والآن ... تستطيع أن تنهض .
جابر : ( وهو ينهض ) هل يشرفني مولاي الآن بمعرفة الجهة التي سأحمل إليها رسالته ؟ .
الوزير : ليس الآن .. ستعرف فيما بعد المهم أن ينبت شعرك بسرعة ، وأن يكسو جلد رأسك كطاقية سوداء .
جابر : وإلى أن يحين ذلك الوقت ؟.
الوزير : إلى أن يحين ذلك الوقت .. ستثقيم في غرفة منعزلة ومظلمة حتى لا يراك أحد ، ولا يقرأ ما هو مخطوط على رأسك إنس ولا جن . .
جابر : من أجل مولاي مستعد لكل شيء .
الوزير : إذن تضع على رأسك كوفية . وتستعد للمكوث في غرفة مظلمة . هيا معي ( يمسكه الوزير بيده ، ويخرجان ) .
الحكواتي : وهنا نستأذن المستمعين الأكارم باستراحة قصيرة نشرب فيها فنجانا من الشاي طبعا من يشاء الخروج لقضاء حاجة يستطيع الخروج ، ومن يشاء البقاء يمكنه أن يبقي ( تنفر من بين الزبائن تعليقات وردود فعل سريعة .. ) لا .. بالله عليك كمل ... .
زبون 3 : نريد أن نعرق بقية الحكاية .
زبون 1 : دائما تقطعها في لحظة حرجة .
زبون 2 : هات شاي للعم مونس .
زبون 1 : تستطيع أن تشرب الشاي ، وأنت تقرأ .
الحكواتي : لا تخافوا .. سنكمل القصة .. دعوني أسترد أنفاسي قليلا .
زبون 3 : اتركوه على راحته . لن يغير العم مونس عادته .
زبون 2 : هات نارة يا أبو محمد .
الخادم : حاضر .
( يعود جو المقهى إلى التراخي والفوضى ، كلام .. وتعليقات .. وصياح على أبي محمد الذي تنشط حركته الآن . بعض الزبائن يستغل الاستراحة للخروج قليلا من المقهى ) ..
زبون 1 : أرى أن أعرف إلام سينتهي هذا الولد .
زبون 2 : يمين بالله أحببته . .
زبون 3 : يفهم الحياة كأنه جربها أجيالا . .
زبون 2 : ويعرف كيف يقتنصها أيضا .
زبون 3 : الحياة كالمرأة لا تعطي جسدها إلا لمن يعرف كيف يأخذ جسدها . .
( الخادم يحمل صينية عليها عدد من كؤوس الشاي .. يضع كوبا أمام الحكواتي ، ويوزع الباقي ، ثم يعود بعد قليل حاملا موقد الفحم الجمر على النراجيل ) .
زبون 1 : أنا أقول إن شأنا كبيرا ينتظر هذا المملوك .
زبون 2 : بمثل هذه الفطنة والجرأة يستطيع أن يتسلق عرش السلطنة .
زبون 4 : لا تزيدوها . ما هو إلا ولد ذكي ونهاز للفرص .
زبون 3 : نهاز للفرص .. ليكن . هذا هو الطريق للوصول إلى أعلى المراتب .
زبون 4 : وأحيانا إلى أسفل المراتب إذا كنت لا تعرف .
زبون 2 : نعرف ونرى كيف يسير دولاب الدنيا .
زبون 1 : ولد بهذه العياقة ، يخرج من ألف مصيدة بسلام .. بالله يا عم مونس عجل .. أنا أقول إن شأنا كبيرا يتظر هذا المملوك ، فما رأيك ؟ .
الحكواتي : اصبروا .. اصبروا هي دقائق وتعرفون بقية الحكاية ..
زبون 1 : طيب .. العم مونس لا يريد أن يجيب . ولكن هل تراهن على ما أقول ؟.
زبون 2 : وأنا أنزل معك بالرهان .
زبون 4 : لا أراهن .. قد يصح ما تقول ، إلا أن المنطق السليم هو ألا يصح ما تقول .
زبون 1 : هذه فذلكة . نحن نعرف الدنيا ، ونرى كيف يسير دولابها .
زبون 2 : ستأتي بقية القصة على كل حال .
زبون 1 : هات شاي يا محمد ..
زبون 3 : ما دام العم مونس يطلب استرحة افتح لنا الراديو .
زبون 2 : أي .. افتح هذا الراديو يا أبو محمد ..
( أبو محمد يفتح الراديو .. ) .
صوت المذيع : وفي الساعة السابعة من مساء اليوم عقد اجتماع هام بالقصر الجمهوري حضرة السادة الوزراء .
زبون 1 : غير المحطة يا أبو محمد ..
زبون 4 : دعونا نسمع نشرة الأخبار .
زبون 1 : بلا أخبار ووجع قلب .
زبون 2 : ابحث عن أغنية تبل الريق . .
زبون 3 : أي أسمعنا غنوة حلوة ..
( يد محمد تحرك المؤشر بحثا عن أغنية .. ينبثق صوت أم كلثوم في أغنية " الحب كده " ..) .
أصوات زبائن : - أيوه يا سلام .
( يستقر المؤشر على المحطة ، ويتوضح غناء أم كلثوم ، وهي تكرر " الحب كده " العم مونس يرقب الزبائن ، ويهز رأسه بينما يشرب الشاي بهدوء . تستمر الأغنية بضع دقائق هي تقريبا فترة الاستراحة . ومن حين لحين نمسع آهة " يا سلام " ) .
بعد الاستراحة.
( يخفت صوت الغناء ويصبح خلفية ... ) .
زبون 2 : أنهي العم مونس فنجان الشاي .
زبون 1 : لنسمع إذن بقية الحكاية .
زبون 3 : لا بأس بهذه الحكاية تملأ الدماغ فعلا .
زبون 1 : والله .
زبون 2 : حلفتك بالله يا عم مونس لماذا تتدلل علينا بسيرة الظاهر ؟.
الحكواتي : العم مونس لا يعرف الدلال ، ولكنه يعرف جيدا ترتيب الحكايات في كتابه .
زبون 2 : تبالغ في الحرص على الترتيب وكأنه تنزيل حكيم .
الحكواتي : لن نفهم أيام الظاهر ، إلا إذا فهمنا ما تقدمها من أوضاع وأزمان لا تنسوا أن التاريخ متسلسل .
زبون 2 : ولكن متى تنتهي حكايات ما قبل الظاهر ؟ .
الحكواتي : كل شيء وله أوانه .
زبون 2 : أتكون حكاية اليوم هي الأخيرة ؟.
الحكواتي : من يدري ( يفتح كتابه مبسملا بصوت خافت .
زبون 2 : لا فائدة .. كتوم وعنيد أيضا .
زبون 3 : با أبو محمد .. ساعدنا على العم مونس ، كي يبدأ السيرة غدا .
الخادم : وهل أستطيع والله مشتاق لسماعها أكثر منكم .
الحكواتي : ونعود إلى الصلاة على النبي ، ونتابع مجرى قصتنا .
أصوات : ألف الصلاة والسلام عليه .. سنرى الآن نهاية جابر .
- اقفل الراديو.
( تهدأ الضجة ، ويختفي صوت الراديو .. يرين الصمت والانتظار ) .
الحكواتي : فقال الوزير لمملوكه جابر . هيا معي .. وبعد أن ستر رأسه بكوفية سوداء ، وضعه في غرفة مظلمة على بابها حارس بالاقتراب . وكان لا بد من الانتظار حتى ينمو الشعر ، ويخفي سر الوزير .. والتوتر في ازدياد . ترقب في قصر الوزير . وحركة ومشاورات في قصر خليفة بغداد . وكلعبة الشطرنج كل يحك رأسه ، ويفكر كيف يحرك أحصنته وجنوده . اللاعبان خليفة بغداد ووزيرها ، ووقعة الشطرنج بغداد وعامتها .
( أثناء كلام الحكواتي يدخل الممثلان اللذان قاما بدوري الوزير والأمير عبد اللطيف .. هما الآن يمثلان دوري الخليفة المنتصر بالله وأخيه عبد الله . يضعان ما يحملان من قطع ديكور بسيطة تمثل ديوان الخليفة ، وهو شبيه جدا بديوان الوزير يتخذان مكانيهما ، وينتظران سكوت الحكواتي .. بعد لحظات ) .
عبد الله : أصبحت اللحظة مناسبة للخطوة الحاسمة .
الخليفة : أواثق من النتائج .؟.
عبد الله : لو لم أكن واثقا من النتائج ما كنت لأقول .. أصبحت اللحظة مناسبة .
الخليفة : لا تنس أن له أعوانا مخلصين داخل قيادات الحرس .
عبد الله : ( يلوح برسائل في يده ) وهل أجهل ذلك . ما قيمة هؤلاء الأعوان بعد أن أثمرت مراسلاتنا .
الخليفة : ( لا يخفي ضيقه ) مراسلاتنا : بل قل تنازلاتنا التي ستجردنا تقريبا من معظم ولاياتنا. .
عبد الله : ( باحتداد ) لن نعود لنناقش هذه النقطة . أحيانا من الضروري أن تتنازل عن شيء كي تكسب شيئا أهم . دون تنازلات ما كان ممكنا أن نقنع بعض الولاة بإرسال إمداداتهم وبلا إمدادات لن يكون سهلا أن ننتصر ، عليه قل لي .. أتريد أن ننفض أيدينا ، ونترك الوزير يسرح ويمرح في بغداد . يدعم قواه ويعزز مراكزه ، وحين تواتيه الفرصة ينقض علينا ، ويصفينا ؟.
الخليفة : ( يختبط وجهه ) لا تستفزني . أنت تعرف أني مصر هذه المرة على ألا نتراجع . ما عدت أحتمل أن يكون في بغداد خليفتان وقيادتان . سيصيبني الشلل لو اضطررت بعد كل هذا إلى استقباله في ديواني ورؤية وجهه المريب .
عبد الله : إذن لماذا نتردد ؟ المناورة أساس الحكم . نوقف بعض العداوات لنتفرغ لعداوة أهم . وبعدها سيكون لكل حادث حديث . إننا نمسك بالخيط قطعنا عليه كل فرصة للاتصال بالخارج ، وأقنعنا ولاة أقوياء بالانضمام إلينا . الآن لدينا قوات تنتظر إشارة ، وأعتقد أنها اللحظة المناسبة كي تصدر لها الأوامر بالتحرك إلى بغداد .
الخليفة : ومع هذا أريد أن تكون حساباتنا دقيقة . وضعنا لا يحتمل خطأ أو هفوة .
عبد الله : تعرفني بارعا في الحساب . إني أوكد لك أن الفرصة حانت كي نتخلص منهم ، ونعيد للسلطة حزمها ومركزها .
الخليفة : أتعلم مجيء رغم ضرورته . أخشى أن نخلص من شر لنقع في شر آخر . لو أوقظ النصر شراهتهم ، فسنواجه مساومة غالية الثمن .
عبد الله : اترك لي هذا الأمر بعد أن ننتهي من الوزير ، ونعيد لقوات بغداد وحدتها ، سيكون سهلا أن نواجه احتمالات طارئة كهذه . ولا تنس أني أعرف التنقاضات القائمة بين الولاة أنفسهم من اليسير دائما أن نشعل بينهم معارك تستنزفهم وتضعفهم حتى التنازلات يمكن أن تكون مؤقته .
الخليفة : إنها مواثيق يا عبد الله .
عبد الله : القوة هي ميثاق كل المواثيق يا خليفة المسلمين ، وعلى كل الوقت مبكر للخوض في هذا الحديث . ما تزال أمامنا المهمة الأساسية ، أن نخلص من الوزير وأعوانه . وهذه هي اللحظة . فأصدر الأمر لولاتك بالتحرك نحو بغداد . أما نحن فعلينا أن نهيئ ما يحتاجه قدومها . أمامنا ترتيبات كثيرة لا بد من اتخاذها ، والوقت لا يرحم . .
الخليفة : ( مفكرا وساهما .. بعد فترة ) هل تتخيل ما تحتاجه قوات كهذه تأتي لتحل في بغداد ؟ أنت تعرف أن بطون العساكر .
كالبراميل لا تشبع ولا ترتروي .
عبد الله : هو ذا واحد من الترتيبات التي تنتظرنا .
الخليفة : الخزينة لا تشكو التخمة يا عبد الله .. وحتى ثرواتنا الخاصة لا تكفي .. فمن أين سنسدد نفقات إقامتهم ومكافأتهم ؟.
عبد الله : لن نعدم وسيلة لتدبير المال وتسديد كل النفقات .
الخليفة : أتعتقد أن التجار لن يبخلوا .
عبد الله : التجار .
الخليفة : ولم لا يعنيهم الأمر مثلنا إننا نحمي أيضا . .
عبد الله : الحقيقة ينبغي أن نقتصد في استنزاف التجار لم يبخلوا أبدا وخزائننا شاهدة .
الخليفة : إذن .. من أين سنجد ما يسدد نفقات العساكر ؟.
عبد الله : مسألة بسيطة للغاية .. لماذا تأتي هذه القوات ؟ إنها لا تأتي لتتنزه ، وتتفرج على عاصمة المسلمين بغداد وإنما لتؤدي واجبا مقدسا! إنها تأتي لتحمي للمسلمين خليفتهم وتحفظ لهم وحدتهم . حماية الخليفة واجب على كل مسلم فمن قوته يستمدون القوة ، ومن ضعفه تدب إليهم الفرقة والشقاق . ولهذا فعلى الجميع أن يساهموا بنصيبهم في حماية الخليفة ، وصون خلافته ذلك أول واجباتهم كمسلمين .
الخليفة : ( مبهورا ) أوضح لي ماذا تعني ؟.
عبد الله : ألم تفهم ما أعنيه سنفرض ضريبة مقدسة على الناس في بغداد ، وبذلك نوفر كل النفقات اللازمة . .
الخليفة : (باسما ) ضريبة مقدسة حمانا الله من دهائك هي فكرة معقولة ، لكنها لا تخلو من مزالق . أخشى أن تثير الضريبة تذمر الناس . وفي مثل هذا الظرف من السهل أن يتحول التذمر إلى فتنة . حينئذ قد تنقلب الأمور رأسا على عقب .
عبد الله : فتنة عامة بغداد تحث فتنة ( تلوح على وجهه أبشع علامات الازدراء ) .. ينقصك يا خليفة المسلمين أن تعرف رعيتك . أما أنا فأعرفهم جيدا .. قد يتذمرون ، ولكن ما أن يروا وجه حارس حتى يمضغوا تذمرهم ، ويبلعوه مع ريقهم . وفي النهاية يهرولون ، لينبشوا الأرض من أجل تسديد الضريبة .
الخليفة : كم تبدو واثقا من خططك وتقديراتك .
عبد الله : تعرفني بارعا في الحساب ، والبارع في الحساب لا يضيع اللحظة فأصدر يا خليفة المسلمين أوامرك ولنتهيأ للضريبة الفاصلة .
الخليفة : ما دمت واثقا إلى هذا الحد .. فلتكن مشيئة المولى . .
زبون : مشيئة المولى ، أو مشيئة هذا الداهية .
الحكواتي : ( فيما ينسحب الممثلان حاملين معهما قطع الديكور ) هذا ما كان من الخليفة وأخيه عبد الله .. وأما عامة بغداد فحالهم من سيئ إلى أسوا ، يسكن قلوبهم القلق ، ويشلهم الخوف . ينامون ولا يعرفون علام سيستيقظون .. وبدأت المعيشة تزداد صعوبة . نذر الرغيف وازداد القلق .. وبدأ يمتزج الخوف بالجوع ، والتعاسة بالحاجة والألسنة الجافة تهتف : يا بصير .
( أثناء كلام الحكواتي تدخل امرأة ما زالت صبية على حضنها طفل . يمكن أن تقوم بدورها الممثلة التي أدت دور المرأة الثانية .. غرفة بائسة شبيهة بالكوخ ... تجلس المرأة شاحبة تعيسة . وهي تضع طفلها في حجرها .. الطفل لا يكف عن الصراخ والعويل المرأة شديد البؤس والتعاسة .. تبدو وكأنها تنتظر ) .
الزوجة : ( تهدهد الطفل ... وهي تغني ) هي يا الله ... هي يا الله .. نام يا عيني نام .. هي يا الله .. ( يواصل الطفل البكاء ) يا الله .... .
ماذا أفعل ( تفتح ثوبها ، وتخرج ثديها لترضعه ) تعرف أن ضرعي جاف ، ولا توجد فيه قطرة واحدة من الحليب . من أين سيأتي الحليب ، وأمك لم تضع في فمها لقمة خبز منذ يومين ( الطفل لا يجد ما يرضعه ، فيعود إلى البكاء ) هي يا الله .. هي يا الله .. .
( يدخل الزوج ، وهو شاب في حوالي الثامنة والعشرين ، يمكن أن يقوم بدوره الرجل الأول . وجهه مكفهر وحزين . يجلس على الأرض متحاشيا النظر إلى زوجته ) .
الزوجة : ( مبهوتة ، تحدق فيه .. ولكنها للحظات تخاف أن تتكلم . بعد قليل ) أراك تعود بسرعة ؟ .
الزوج : ( الطفل يبكي دائما ).
الزوجة : هل توسلت إليه كما وعدتني ؟.
الزوج : لا فائدة .
الزوجة : ( يائسة ) أعرف كبرياءك . فضلت أن تكابر على أن تتوسل . .
الزوج : أقسم إني توسلت .
الزوجة : وشرحت له كل ما نقاسية ؟.
الزوج : لم أترك إليه سبيلا .
الزوجة : هل أقسمت له إننا لم نذق طعاما منذ يومين . منذ يومي لم نضع في أفواهنا لقمة خبز . هل قلت له إن ابننا سيموت من الجوع ، لأن صدري ناشف لا يدر إلا الهواء لو قلت كل هذا ، لا يمكن أن يمنع عنك العمل ولو كان قلبه من حجر .
الزوج : ولكن قلبه من حجر .
الزوجة : حلفتك بالله .. هل ألححت عليه . وشرحت له كل ما نقاسية ؟.
الزوج : ( بعنف ) والله كدت أبوس قدمه . بقيت ألح حتى طردني وهددني بالضرب .
الزوجة : ( بعد فترة ) يا رب ماذا حل بالدنيا ؟ عملت عنده سنتين .
الزوج : وإذا بدأ الكساد رماني كالكلب .
( يعلو صراخ الطفل ، فتنظر إليه المرأة بحزن وتهدهده ) .
الزوجة : خلت كل القلوب من الرحمة .. ماذا حل بالدنيا ؟ ( الصراخ يعلو ) نم يا حبيبى نم .. آه .. لو أستطيع لعصرت لك قلبي وأطعمك .. ( تهدهده ) هي يا الله .. هي يا الله ( بعد لحظة ) .
والآن .. ما العمل ؟.
الزوج : لست أدري .
الزوجة : ومن الذي يدري إذن ؟ سيموت الصغير بين أيدينا .
الزوج : ( مقهور الصوت ) ماذا أفعل ؟ .
الزوجة : أي شيء .. لن نتركه يموت بين أيدينا .
الزوج : ( بعد تردد .. بلهجة يرعشها الخجل والغضب وهو مطرق الرأس ) لماذا لا تذهبين إلى جارنا في بيته مؤونة تكفي لسنة . يمكنك أن تسأليه شيئا نأكله .
الزوجة : ( يتغير وجهها .. بعد لحظة تتأمله بعينين جاحظتين ) أتطلب مني ذلك ؟.
الزوج : ( لا يزال مطرقا في الأرض ) لعله الحل الوحيد ..
الزوجة : أأنت جاد ؟ إنك تعرف ما يعنيه الذهاب إلى بيته ( يغص صوتها بالبكاء ) لا .. لا يمكن أن تطلب مني ذلك لا يمكن .. ( تنفجر دموعها ) .
الزوج : ( ينفجر قهره ) ماذا أفعل ؟ تضعين كل شيء على رأسي وكأني المذنب . أأنا المسؤول عما يحدث في بغداد أأنا من أوقع الفتنة بين الخليفة والوزير أأنا من أحدث الكساد ، وأوقف الأعمال قولي لي ماذا أفعل ؟ لست ساحرا ولا رجل معجزات . تعرفين أن قلبي ينزف ، وأن صراخه يكويني في الأعماق ( خلال ثورته ، تنهض المرأة ، وتجلس إلى جواره ثم تمسح على شعره ) .
الزوجة : ( مع شهيق دموعها .. بحنان ) أعرف .. أعرف .. إني امرأة موجوعة وحمقاء . لا أريد أن تغضب . الجوع يعض كما تعرف .
( يسود الصمت .. الرجل يدفن وجهه بين يديه . بعد قليل تنهض المرأة فتضع الطفل على حشية من القش ، وتهم بالخروج ) .
الزوج : ( كالمجنون يمسك معصمها ) ماذا تفعلين ؟.
الزوجة : الله بصير ، ولن يضن علينا بالغفران .
الزوج : ابقي هنا .
الزوجة : الله يغفر .. لن نتركه يموت ونحن نتبادل النظر ؟.
الزوج : لا .. ليس الآن .. لا أستطيع .. لا أستطيع .
( يشدها إلى جواره يجلسان وتتساقط دموعها معا ، بينما يعول الصغير ) .
الزوجة : يا بصير ..
زبون 2 : أستغفر الله العظيم .
زبون 4 : في النهاية لا تقع إلا على رؤوس المساكين .
زبون 3 : الله يساعد ..
الحكواتي : وكان المملوك جابر ما يزال في الغرفة المظلمة ، لا يدخل إليه الضوء إلا من نافذة صغيرة كفتحة العين ينتظر أن ينمو شعر رأسه كي يخرج من حبسه ، ويرحل حاملا الرسالة ( أثناء كلام الحكواتي يجري تركيب غرفة على المسرح لها باب ونافذة ضيقة جدا . النافذة مشبكة بالحديد ، والباب مغلق يقف عليه حارس ) وكان الوزير وكأنه على جمر يبدو نافذ الصبر . وفي كل يوم ينفتح له باب الغرفة ( الحارس ينحني ويفتح الباب أمام الوزير الذي يدخل ) فيدخل على جابر يمسح بيده على رأسه ، ويقيس نمو شعره ، ولو ملك لأمر الشعر أن يطول لساعته ، ويصبح كجدائل امرأة . لكنه كان يخرج كل يوم ضيق الصدر . في يده علبة نشوقه ، ويمضى لينتظر يوما آخر ( يخرج الوزير تحية احتفالية من الحارس .. ينغلق الباب ) ولم يكن يستطيع أحد أن يزور جابر في عزلته ، أو يقترب من غرفته . فأمر الوزير الصارم ، وغضبه عات لو علم .. لكن للنساء حيلهن . وقد استطاعت زمرد بعد تعب وجهد ، أن تجعل الحارس يغمض عينيه ، وأن تسرق لحظات من وراء النافذة . تتحدث خلالها مع المملوك ، الذي يخفق قلبها لمجونه وحسن كلامه .
( تكون زمرد قد ظهرت، واقتربت بخطوات حذرة من النافذة الصغيرة . تبرز مشيتها مفاتن صبية يضج جسدها بالحياة . على وجهها نقاب نصفي لا يخفي جمال عينيها ، ولا القلق الذي يطلي سوادهما .. ) .
جابر : ( يتدافع صوته بفرح من وراء النافذة ) زمرد لم يخطئ إحساسي إذن عرفت أنك تأتين . تلك هي العلامة فجأة التهب رأسي ، وانتفض كل ما في جسدي ، فأيقنت أنك تأتين . وها أنت ذي بلحمك ودمك .. لم تفارقي خيالي يا زمرد . دائما معي في هذه الغرفة . أرى عينيك تضيئان العتمة . وجسدك يتثنى حولي نضرا . حيا ، معطرا أتصدقين أحيانا أحس عطرك ينفذ إلى مسامي فتأخذني رعشة كاللذة . ينتفض جسدي ، ويرتعش كما لو كنت أحتويك .. ولكن بحق الله ارفعي النقاب .. .
زمرد : ( القلق والحزن واضحان في صوتها ونظرتها ) جئت متسترة ، ولا ينبغي أن يلمحني أحد . تعبت كثيراً حتى نجحت في الوصول إليك . .
جابر : ولم ؟ ألا يعرفون أنك أصبحت لي ؟ .
زمرد : لم يصبح لك شيء بعد ؟ .
جابر : ماذا تقولين ؟ وافق الوزير وكانت وعوده صريحة . .
زمرد : ربما وافق ووعد . .
جابر : ( بعنف ) لا تقولي .. ربما بل وافق بالفعل . .
زمرد : أصدقك ولكن لم يصبح لك شيء بعد ، أنت الآن سر محبوس في غرفة مغلقة . .
جابر : كلها فترة وتمر ... عندئذ سأحتوى هذا الجسد الذي يكويني ، ولن أدعه يلفت مني إلا بالموت فعلت كل هذا من أجلك يا زمرد . أنت من أوقد ذهني ، ومدني بالإلهام . كنت أحلم بك عندما لمعت في ذهنى الفكرة أصبحت لي .. كل هذا الجسد الدافئ لي .. زمرد : ( غائمة العينين ) ما تزال بيننا مسافة محفوة بالمخاطر . .
جابر : ماذا تعنين ؟ لم أسمعك مرة تتحدثين بهذه الجدية أعرف صوتك يغنج ؟ لم أسمعك مرة تحدثين بهذه الجدية أعرف صوتك يغنج مرحاً ، والكلمات تنزلق بين شفتيك لأهمية مثيرة ماذا هناك ؟ .
زمرد : هذه الرحلة ‍ .
جابر : أتخافين على ‍ سأنهب الأرض كالخيال ، وسأكون أسرع من طير . لو بدأت زينتك فسأكون إلى جوارك قبل أن تفرغى منها زمرد : إني قلقة يا جابر . .
جابر : ولم القلق ؟ .
زمرد : لا أدري .. أحيانا يعصر قلبي إحساس غريب ، إني أحبك يا جابر . .
جابر : آه .. لو سمعت هذا التصريح في ظرف آخر ولكن بحق الله ارفعي النقاب . .
( تلتفت زمرد حولها قلقة ، ثم تفك طرف النفاب ، فيظهر وجهها الجميل والمتناسق التقاطيع ) . .
زمرد : لو لمحني أحد ، فسيسلخون جد الحارس . .
جابر : ليسلخوا جلده ، وجلدى أيضاً إذا شاؤوا . ثمن عادل لرؤية هذا البهاء ( يتحلب الريق في صوته ويمد يده ) لو أستطيع أن ألمس . هاتين الشفتين الندبتين ، أو هذا العنق الشفاف . ( تصطدم يده بالقضبان ) لعنة الله على هذه ستحرق شفتاي كل ثنية في هذا الوجه .
زمرد : أشعر قلبي ينقبض ، ويتقلص ، كان من الأفضل ألا تزج نفسك في هذه القصة . .
جابر : أفعل ذلك من أجلنا هل تريدين رجلاً بلا طموح وبلا قيمة كنت أظنك فخورة بي، ستزوجين رجلاً رفيع المقام ولديه ثروة ، وسأعرف كيف أوظف هذه الثروة . الذكاء لا ينقصني .. وبالذكاء يستطيع المرء أن يصبح خليفة بغداد يا زمرد . .
زمرد : إلا أن ما حولنا غامض وملئ بالمهالك أصبح القصر كالقلعة ، الحراسة شديدة ، والأوامر صارمة ، والجميع يحملون أسلحتهم استعداداً لطارئ أو مفاجأة العبوس يخيم حولنا . وكل واحد يضع يده على قلبه خائفاً عليها الوزير مهموماً يزمجر . ( يتحول صوتها هامساً ) وأحياناً تفلت منه كلمات يتطاير منها الهول . الواقعة بين الخليفة والوزير يا جابر . .
جابر : فخار يكسر بعضه يا زمرد المهم أن إبلغ الرسالة ، وأنال مكافأتى . .
زبون 1 : مثلك يربح ولا يخسر . .
زبون 3 : يفهم سر الحياة وأصولها . .
زمرد : هل تعرف ما تحويه الرسالة ؟ الرسالة ؟ لا شك أنها مليئة بالحماقات ، أعرف كيف مراسلات الحكام ، ولكن ليكتب ما يشاء تعنيني المكافأة لا مجرى الرسالة .
زمرد : ( مترددة بقلق ) لا أدري .. كنت أتمنى ألا تورط نفسك ، ومن يعرف لو افتضح الأمر ، فلن تلمسني إلا يد باردة ميتة . .
جابر : لا تقلقي . ستكون يدي مشتعلة بالحياة عندما تلمسك . لست ذبابة حمقاء تسقط في أي فخ ، الأمر إبسط مما تتصورين ، سأنطلق كالريح ، إبلغ الرسالة ، وأعود لئلا نفترق بعدئذ . .
زمرد : إني خائفة يا جابر لا بد أنها خطيرة ، ولعلها تمس مولانا الخليفة لو علم أحد . .
جابر : وتشغلين نفسك بالخليفة والوزير ! فخار يكسر بعضه يا زمرد . لن نحمل همومهم أيضاً . مستقبلنا أهم تصوري فجأة وجدت أمامي فرصة عمري ، فهل أتركها ! أكون مجنوناً لو لم أثب عليها ، كل الفرق بين الفشل والنجاح ، هو أن يعرف المرء كيف ينقض على الفرصة لا لا تخافي . المهمة سهلة ولا مبرر للقلق سأعود .. وستكون أمامنا كل الأيام ، أيام حافلة وبهيجه . .
زمرد : أواثق حقاً أنه لا خطر عليك ؟!.
جابر : هناك خطر واحد فقط . .
زمرد : ( بلهفة وجدية ) ما هو ؟ .
جابر : أن تبالغي في التثني حين تسيرين في أرجاء القصر . لو فعلت . فسيكتشف الوزير نفسه أن لك أليتين تتلاحق لها الأنفاس كأني أراه .. سيتناول نشوقه ، ويسوقك إلى مخدعه ، حينئذ لن يبقي للمسكين جابر أن يموت كمدا . .
زمرد : ( باسمة ) متى تتعلم الحشمة ! .
جابر : كل هذه المفاتن أمامي ، وتريدين أن أحتشم ( يضرب بيده على القضبان .. متحسراً ) لولا قضبان النافذة .. ولكني عائد فور خروجي . ابدئي زينتك عندما أعود ، ينبغي أن أشم عطرك على بعد فراسخ من بغداد ( يظهر الحارس ويتنحنح ) . .
زمرد : (بحركة عاجلة ترفع نقابها وتربطه ) حان الوقت يجب أن أمضى . كن حذرا يا جابر وتحاش المخاطر . سأقضي الوقت كله ابتهل لعودتك ، فحافظ على نفسك .
جابر : لا تخافي .. سأسبق طيور البراري . .
( إشارة وداع تغادر النافذة ، وهي تلتفت من وقت لآخر ناحية جابر غامزة وباسمة ) . .
الحكواتي : ( بعد فترة وبقي جابر حبيس غرفته يتردد عليه الوزير كعادته ، حتى جاء يوم قدر فيه الوزير أن الشعر طال حتى صار كافيا لستر الكتابة ، لا يظهر جزء من كلمة ولو تغلغلت الأبصار بين الشعرة والشعرة . حينئذ طاف السرور بوجهه ، وقاد مملوكة ليهيئ أمر رحيله دون إبطاء ، فالوقت ثمين والبرهة قد تقلب أوضاعاً ، وتغير مصيراً . .
( يظهر الوزير محمد العبدلى ، ومعه المملوك جابر وقد بدأ شعره ناميا ، وإن كان أقصر مما كان عليه أول ما رأيناه . نهما في ركن من الديوان ) . .
الوزير : حانت اللحظة يا جابر لحظة لن ينساها لك لا وزير ولا أمير ولا مؤرخ في بغداد . .
جابر : يبهج القلب ألا ينساني سيدنا الوزير . أما الآخرون فلا شأن لي بهم . أيأمر سيدي مملوكه بالرحيل ؟ .
الوزير : نعم حان الوقت ، ولدقائق ثمن . .
جابر : وإلى أين يريد سيدي أن أتوجه برسالته ؟ .
الوزير : قبل أن أخبرك .. اسمع يا جابر تحذيري "وإني أعني ما أقول . لو عرف إنس أو جن المكان الذي تقصده ، فاعلم أنك مفقود . وأن جهنم تفتح أبوابها لابتلاعك . .
جابر : معاذ الله أيشك سيدي بأمانة مملوكة . لا عشت إن كنت ممن يخونون السر أو الأمانة . .
الوزير : أتوسم فيك الإخلاص ، إلا أن التحذير لا يضر . .
جابر : التجربة محك الإخلاص ,. وسيرى سيدي إن كنت أستحق ثقته أم لا . .
الوزير : طيب ستتوجه يا جابر قاصداً بلاد العجم . تطلب .
حاضرتها ، وتسلم الرسالة إلى ملكها . .
جابر : بلاد الملك " منكتم بن داوود " .
الوزير : نعم بلاد الملك "منكتم بن داوود" . والرسالة لا تقبل التأخير . كلما أسرعت كانت الخدمة أجل ، والجزاء أعظم . .
جابر : سأقطع المسافة كالبرق الخاطف . لن تشرق الشمس بعدد أصابع اليد ، إلا وأكون أمام الملك " منكتم بن داوود " .
الوزير : ( يبتسم ويمسح على شعره . يطوف في نظرته معنى غامض ) كم تعجبني همتك ! لو كان لدي عشرة من أمثالك لغزوت بهم الدنيا . تدبيرك يا جابر لن ينساه وزير ولا أمير ولا مؤرخ في بغداد . .
جابر : جاد على سيدنا الوزير بأغلى مما تستحقه خدمتى التافهة . وعوده لا يحلم بمثلها مملوك . .
الوزير : الوعود محظوظ . سننفذها ونزيد . إن كنت تسأل عنها . .
جابر : والله أردت التعبير عن الامتنان لا أكثر أنا رهن الإشارة فمتى يأمر سيدي بالرحيل ؟ الوزير : في الحال .. وكل شيء جاهز . أسرجوا أفضل جواد ، وهيأوا كل ما تحتاجه الرحلة ، ينبغي أن ينجح سباقنا مع الوقت ولا داعي للتنبيه مرة أخرى يا جابر .. !! ذر أهم من زاد الطريق ، وإن وقعت في مأزق ، فلا تضيع نباهتك وأحسن التخلص . .
جابر : سأفعل أي شيء، لأكون كما يرجو سيدي . .
الوزير : هيا إذن . .
جابر : ( متردداً ) أيسمح لي برجاء صغير قبل الرحيل ؟ .
الوزير : أطلب ما تريد . .
جابر : أن ترعى سيدتي شمس النهار خادمتها زمرد . وأن يتم تجهيزها خلال غيتي . .
الوزير ( يضحك ) عرفت سر العجلة . هو العشق إذن ، لا تخف منه إلى مخدع الأحباب هيا بنا . .
جابر : يعجز اللسان عن الشكر والدعاء . ( يخرجان ) . .
الحكواتى : كانت عدة الرحيل جاهزة . وعندما تهيأ المملوك جابر لاعتلاء جواده ، عانقه الوزير وسط دهشة الحاضرين ، وتمني له السلامة .. ثم أمر أن يرافقه بعض المماليك إلى باب المدينة ، حتى يتأكدوا من خروجه بأمان ، ومن باب سري في القصر ، خرج الجميع يتقدمهم جابر ، وساد الترقب والقلق حتى عاد المماليك يحملون بشارة النجاح ، وخروج الصمت الذي عانقه وزير بغداد ، وخرج يحمل سرا خطيراً ، وتنتظره إذ يعود هبة وفيرة . .
(يدخل المملوكان ياسر ومنصور، يلبسان ثياب القتال ، ويحملان السلاح كأنهما في معركة ، يضعان ديكورا لبرج مراقبة على أحد أسوار القصر ، ويتخذان وضعية الحراسة منصور مطبق الملامح ، يبدو عليه الضيق ، ياسر مرتبك ، يعكس وجهه رغبة في الكلام ، ولكن ملامح منصور لا تشجعه ... يمتد بينهما صمت ثقيل . يتململ ياسر . يرمق زميله بعين حذرة وفي النهاية يتغلب على تردده ، ويبدأ الكلام ، حديثه مقطع في البداية ) . .
ياسر : يا حفيظ . مثله يجب أن يعلق خرزة زرقاء ، ويتقى شر الحاسدين ( صمت ) مثله يحسد حقا . ( صمت ) رأيته ينسل من بينهم كما تنسل الشعرة من العجين ، خرج ضاحكاً وأنه يتجول في ردهات هذا القصر ( صمت ) لو لم أكن أحد الذين رافقوه لما صدقت أنه يفلت من الحراس بهذه السهولة يا حفيظ .. يخطف الكحل من العين لو أراد ( صمت ) لا أحد يجرؤ على مواجهة نظراتهم أما هو فقد مازحهم وأضحكهم لم نصدق عيوننا ، لكنهم كانوا يضحكون .
بالفعل وكأنه يدغدغهم ( صمت ) لديه بداهة لا تخونه أبداً . أراد واحد منهم أن ينهب زوادته ، فواتته الحيلة على الفور ، ولم يفقد لقمة الخبز ( يضحك ) سمعت بعضا من حديثه ، روى حكاية عجيبة عن امرأته التي تدبر قتله ، لأنها تؤثر عشيقها عليه . وقال إنه اكتشف السم مراراً في طعامه ، ويخشى أن تكون قد فعلتها هذه المرة أيضاً ( يضحك ) آه .. لو رأيت الحراس كيف نفضوا أيديهم بخوف ، وتجنبوا الزوادة كأنها قطة ميتة . لم يفقد ولو لقمة خبز ( لحظة صمت طويلة .. يستأنف الكلام بعدها ، وقد اختلج صوته نبرة حالمة ) سينال كل ما يشاء لن تخيب له رغبة قط يا حفيظ .. لديه كل الإمكانيات اللازمة لينال ما يشاء ، من كان يتخيل أن هناك رجلاً يجرؤ على ركوب هذه المخاطرة ! ألا تذكر .. كنا معا عندما نبتت في رأسه الفكرة . حسبناه أحمق .. لا شك أنه أبرعنا جميعاً . انقض على الفرصة كالباشق ، ونالها مثل الباشق ، لو أن لي قليلاً من ذكائها طافت في ذهني بعض الأحلام . يا حفيظ . خرج من بغداد كما يخرج إلى النزهة : رجل مثله يجب أن يتقي شر الحاسدين .
منصور : ( يفقد هدوءه . ينفجر بصوت نافد الصبر ) ورجل مثلك يجب أن يردموا فمه بالحجارة ، ويسدوه بالطين . أوقف هذا النول . منذ ساعة وأنت ترغى ... ألا تترك سيرته لا أريد أن أسمع شيئاً عنه . .
ياسر : أيغضبك حديثي ؟ يا حفيظ .. أعرف أنك تحبه كثيراً . .
منصور : أحبه ! أنا أحبه ! ليت الطاعون أنك تحبه . الغضب لا يخفي حزنك . ( لحظة صمت ).
زبون 2 : ( ينتهز فرصة الصمت ) ردنا إلى جابر يا عم مونس . .
ياسر : ( يتابع كلامه ) يا حفيظ .. أحياناً أشعر أني لا أفهمك يا منصور . لماذا يغضبك ما أفعله ؟ أهناك من يملك القدرة على اقتناص فرصة كهذه ، ويتركها !.
منصور : ( منفجرا ) تسميها فرصة ! لا فائدة ... لن تروا أبعد من أنوفكم .. يلقي بنفسه وهو معصوب العينين في دوار جياش .. أهذا ما تسميه فرصة ؟ .
ياسر : دوار جياش ! يا حفيظ ... ولكن في هذا الدوار امرأة جميلة وثروة كبيرة . وفوق هذا ما يشاء من المراتب ، إنه يرى جيدا ماذا يوجد أمامه ، ليس جابر بالرجل المعصوب العينين .
منصور : المرأة والثروة .. نعم .. هذا كل ما يراه . وخلفهما هل يرى أن في الدوار يجيش الهلاك أيضاً ؟ هلاكه . وربما هلاكك أنت الذي تتحدث بغباء ، وتحلم بفرصة ، وربما هلاكي أنا وربما هلاكنا جميعاً .
ياسر : ( خائفاً ) إنك تقسو وتبالغ : يا حفيظ . أحياناً لا أفهمك . الهلاك يحيط بنا دائماً سواء ذهب جابر أم بقي . .
منصور : ( حزينا .. كأنه يحدث إلى نفسه) طبعا يحيط بنا. كيف لا تريده أن يحيط بنا ! الأذكياء يلقون بأنفسهم معصوبي العيون في الدوارات . لا يلمحون فيها إلا نساء وثروات والأغبياء مثلك يحسدون الأذكياء ، طبعاً أن الهلاك يحيط بنا كرطوبة هذا الليل . .
ياسر : كلماتك قاسية ولها وخز . لا شك أنك حزين وغاضب أحياناً أشعر أني لا أفهمك يا منصور . .
منصور : ( وهو ينصرف ) ولهذا ستموت سعيدا.
ياسر : يا حفيظ لا شك أنه غاضب وحزين .
( يحمل قطع الديكور ، ويخرج هو الآخر ) .
زبون 3 : عد بنا إلى جابر .
زبون 2 : لا نريد أن نفارقه خطوة واحدة حتى نهاية القصة .
زبون 1 : تلذنا أخباره أكثر من الجميع . .
الحكواتي : وكان جابر يقطع الفيافي والقفار . يتحسس رأسه ، حيث خط الوزير رسالته ، فيغمر الفرح جوانحه . كأن يهمز جواده ، وينطلق سريعا .. سريعا كالسهم . يغني وهو يقطع الفيافي قاصدا بلاد العجم .
( يظهر جابر . يمثل إيمائيا وصف الحكواتي لسفره عبر الفيافي والقفار يصاحب الإيماء صوت خبب الجواد ) .
جابر : الطريق الذاهبة إلى بلاد العجم متعرجة وطويلة . أما الطريق العائدة من بلاد العجم فهي مستقيمة وقصيرة . البراري خضراء وملونة لكنها ساكنة . ولا تستطيع أن تهمز جوادها مثلي . الشمس متوهجة ، تتألق كالعروس ، لكنها مقيدة بدورتها . ولا تستطيع أن تهمز جوادها مثلي . أقسو على حوافز جوادي لأني مليء بالأشواق . كل ما ينتظرني لا يحب الصبر أو الفراق . لا الزوجة ، ولا الثروة ، ولا المراتب . المرأة يرتخي حزام سروالها إن طال انتظارها . والثروة تتخاطفها الأيدي إن طال انتظارها . والمراتب يسرقها الطامعون إن طال انتظارها . أقسو على حوافر جوادي لأني مليء بالأشواق كل ما ينتظرني لا يحب الصبر أو الفراق الطريق الذاهبة إلى بلاد العجم متعرجة وطويلة . أما الطريق العائدة من بلاد العجم فهي مستقيمة وقصيرة . انطلق يا جوادي .. انطلق كريح ، أو كسحابة كل ما ينتظرني ..
( ويخرج مختفيا .. ) .
الحكواتي : هذا ما كان من جابر . أما أهل بغداد ، فلم يكونوا يعرفون ما يخرج من مدينتهم ، أو كيف تتطور الأحداث من حولهم .
زبون 4 : مساكين .دائما مثل الأطراش بالزفة .
الحكواتي : يبتهلون ، ويلبدون خائفين صابرين الخناق يضيق عليا أعناقهم ، والجوع يعصر ماءهم . وفوق هذا بدأ الحراس يقتحمون البيوت . لينتزعوا للخليفة ضريبة مقدسة .
( يظهر الرجلان الثاني والثالث من عامة بغداد ، ثم يأتي الرجل الرابع ، فيجلس قربهما هادئا كعادته يطوق الحزن وجهه ) .
الرجل الثاني : ( بعد لحظة ) طالت هذه المرة .
الرجل الثالث : طالت وصارت الحياة عسيرة .
الرجل الثاني : على كل حال .. تنبأ المنجمون بأن هذه السنة ستكون صعبة على العباد .
الرجل الثالث : الله أرحم الراحيمن .
الرجل الرابع : ( بلهجة هادئة ) وحق الله . ما رأينا أقل بكثير مما سنراه والأيام تخبئ لنا مفاجآت صعبة . .
الرجل الثاني : أتشتغل بالتنجيم أيضا .
الرجل الرابع : أنا لم أصغ في حياتي إلى ما يقوله المنجمون . لكني أحاول بما أستطيع أن أرى وأسمع . والنذر كثيرة حولنا ، لمن يريد أن يرى .
الرجل الثالث : يا سيدي نرى أو لا نرى . المهم أن تنتهي هذه المحطة ونكسب السلامة .
الرجل الرابع : وحق الله .. لن تكون النهاية سهلة كما نتمناها . الوزير دبر شيئا فيما يبدو ، وجيوش الولايات ستزحف نحو بغداد ملتهمة في طريقها الأخضر واليابس كلاهما يحوك شبكته ليصطاد بها الآخر . ولا تزال أمامنا مفاجآت قاسية . .
الرجل الثالث : ليحركوا ، وليدبّروا ما يشاؤون . هذا شأنهم .. أما نحن فلا نطلب إلا الفرج .
الرجل الثاني : الفرج واستقرار الأوضاع على حال . .
الرجل الثلث : أي حال أن يتم بينهما الوفاق ، أو ينتصر أحدهما على الآخر .
الرجل الثاني : المهم أن ننتهي .
لا هذا أبونا ولا ذاك أخونا .
زبون 2 : ومن يتزوج أمنا نناديه عمنا .
الرجل الرابع : ولكن هل تعلمان أن الشباك تحاك من جلودنا أي وحق الله من جلودنا .
الرجل الثاني : ( بغضب ) دع جلودنا بعيدا . لا ينطلق لسانك إلا بالشؤم يكفي ما نحن عليه . .
الرجل الثالث : وما أهمية قولك أو قوله المقدور مقدور .
الرجل الرابع : لا يريد أحد أن يرى.
( تدخل المرأة الأولى وهي تولول . يلتفت إليها الجميع ) .
المرأة الأولى : الله أكبر على الظالمين .. ظلم . والله ظلم كنسوا البيت ، ولم يتركوا فيه شيئا كان لدينا كيل من البرغل فأخذوه . وأخذوا الطنجرة أيضا . من أين نأكل الآن ؟ هل نطبخ التراب ؟ هل نسلق الحجارة أ روث الماشية .
الرجل الثالث : ماذا هناك أيتها المرأة ؟.
الرجل الثاني : اهدئي . اهدئي .
المرأة الأولى : ( ما تزال تولول ) دفعوا الباب ، ودخلوا البيت كانت السيوف تلمع بأيديهم . قالوا إنهم يريدون ضريبة لمولانا الخليفة .
الرجال الثلاثة : ( بأصوات متفاوته ومليئة بالدهشة ) - ضريبة ضريبة لمولانا الخليفة ضريبة ؟ .
المرأة الأولى : أي نعم ضريبة مقدسة لتأييد مولانا الخليفة . هذا ما قالوه . ومن أين لي أن أدفع ضريبة ؟ لو كانت روحي وأرواح أطفالي معلقة بثلاثة قروش ، لما استعطت افتداءها . لاعمل ولا مكسب ولا شيء . كنا نسلق كل يوم قبضة من البرغل وننتظر الفرج أما الآن . أخذوا كل شيء . إنهم يدورون على البيوت يأخذون ما تحت الناس وما فوقهم ، إن لم يدفعوا ما عليهم .
الرجل الثالث : شيء لا يصدق ... ضريبة جديدة في هذا الوقت .
الرجل الرابع : وحق الله ... إنه أمر محتوم في هذا الوقت .
الرجل الثاني : اللهم نجنا بالكاد . بالكاد نجد ما نأكله . ومن أين ندفع الضريبة هل قلت إنهم يدورون على البيوت ؟.
المرأة الأولى : والآن .. ماذا أفعل الآن ؟ كيف أطعم صغاري ؟ من أين أتسول لهم لقمة تسد الرمق ( وهو تبكي ) يا رب .. ما هذا الذنب العظيم . .
الرجل الثالث : ( وهو يتنهد ، ويمضى بدوره ) ماذا نفعل ؟ نصبر والله مع الصابرين .
الرجل الرابع : ما هي إلا البداية . وحق الله .. إني أرى جلودنا مسلوخة والآتي أدهي وأقسى .
الرجل الثالث : ( بحدة قبل أن يمضى ) سلخت أم لم تسلخ .. ماذا نستطيع أن نفعل ؟.
الرجل الرابع : ما أعرفه على الأقل ، هو أن ما نفعله لا يقودنا كما ترى إلا إلى الأمان .
الرجل الثالث : ولكن أيها الرجل الذي يتبجح كثيرا بالكلام . قل لي هل تستطيع العين أن تقاوم المخرز ؟.
الرجل الرابع : وحق الله .. لا بد أن ذلك ممكن .
الرجل الثالث : نعم .. إذا كان المرء أعمى ( ويمضى ) .
الرجل الرابع : ( ينظر إليه بحزن ) أهذا ما تقوله لا شك إذن أن الآتي أدهي وأقسى ..
المرأة الأولى : والآن .. لم يبق لنا شيء .
الرجل الرابع : ( وهو ينهض أيضا ) إلا البكاء والانتظار كالآخرين ( يمضى .. ثم تتبعه المرأة وهي تبكي ) .
الحكواتي : وبعد طول تعب ومخاطر ، وصل المملوك جابر إلى بلاد العجم . ومن شدة لهفته للإياب ، لم يحس بالتعب ، ولا بمشقة الطريق . اتجه من فوره إلى قصر الملك " منكتم " يطلب المثول بين يديه . وكان يقول في نفسه .. عندما أخرج من هذا القصر أكون رجلا ذا شأن . وتناوله حارس من حارس في دهاليز قصر كالمتاهة . حتى دخل على ديوان الملك الذي تهتز لسطوته القلوب ، وأقدام أشجع الرجال .
( يظهر ديوان الملك منكتم بن داود ... وهو فاخر الرياش ، وشبيه بديوان كل من الخليفة والوزير ، الملك منكتم يجلس على العرش ، وإلى جواره ابنه هلاوون . يؤدي الدورين الممثلان اللذان أديا دوري الوزير وعبد اللطيف ، وثانيا دوري الخليفة وعبد الله . تتسم ملامح الملك منكتم بالغطرسة واللؤم ) .
جابر : ( التعب باد عليه .. ينحني بإجلال كبير ) السلام على مولاي .. ملك الملوك وسلطان السلاطين منكتم بن داوود . .
الملك : من أنت ؟ وماذا تحمل ؟.
جابر : أنا عبدكم جابر .. وأحمل رسالة من سيدي وزير بغداد . محمد العبدلي .
الملك : رسالة من وزير بغداد ، هل انتهى أخيرا من التردد ، وضرب الأخماس بالأسداس .
جابر : عبدكم لا يعرف شيئا مما هو مخطوط في الرسالة .
الملك : هاتها إذن ( يتردد جابر ، وهو يراقب هلاوون ) ماذا تنتظر ؟.
جابر : الرسالة سر خطير .. وأوصاني سيدنا الوزير ، أن أسلمها لمولاي الملك على انفراد .
الملك : ( يغضب ) أتملون علينا شرطا هذا ابني هلاوون ، ولا أخفي عنه شيئا ، فهات الرسالة بالعجل ، قبل أن أجعل رأسك بين قدميك .
جابر : ( مرتعد ) العفو يا مولاي .. ما أردت إثارة غضبكم ، أو إساءة الأدب أمامكم . ( يتقدم مبالغا في الاتضاع والتأدب ) هو ذا الكلمات .
الملك : ( مندهشا ) الرسالة مخطوطة على رأسك فكرة ظريفة والله .. الحذر لا ينقص وزير بغداد . ولعل وراء حذره ما يسر من الأنباء .. هلاوون هات موسا واحلق شعر هذا المملوك لنرى ماذا خط لنا وزير بغداد في الحال يا أبت ..
( يتجمد المشهد كله على صوت الحكواتي . يخرج هلاوون ، ثم يعود .. وتتم الحلاقة بحركات قاسية وعبر مشهد إيمائي ، تلاحق الحركات فيه كلمات الحكواتي ) .
الحكواتي : وخرج هلاوون ، وعاد يحمل موسا . وبيد يعجلها الفضول حلق لجابر شعره ، فبانت تحته رسالة الوزير مخطوطه بمداد لا يمحى . قرأ الملك " منكتم " الرسالة ، ثم أعاد قراءتها وجابر مطرق في الأرض حابسا أنفاسه ، وحالما بالعودة .
وهمس الملك لابنه بكلمات لم يسمعها أحد ، فخرج هلاوون مرة أخرى من الديوان . .
الملك : ( مبتسما ، والخبث يلون لهجته ) قرأنا الرسالة أيها المملوك . وسننفذ ما يطلبه وزيركم منا ؟ قل ... أما زال يحب النشوق كما أعرفه ؟.
جابر : أي والله يا مولاي .. علبة النشوق لا تفارق جيبه ، وأفضل هدية ترسلونها مع الجواب ، هي صندوق من النشوق العجمي . لن ينسى هديتكم ما عاش . .
الملك : سنرسل له إذن كل ما في بلاد العجم من النشوق . ولكن هل تستطيع أن تحملها ؟.
جابر : من أجل مولاي الملك ، وسيدى الوزير ، مستعد لتحمل كل الصعاب . لكن أرجو أن يتكرم مولاي فيسمح لي بالعودة سريعا إلى بغداد . .
الملك : أتحب بغداد إلى هذا الحد .
جابر : هناك من ينتظرني فيها ( يدخل هلاوون ، ومعه " لهب " وهو رجل ضخم الجثة . أقرع الرأس ، له شاربان كثان ووجه جامد الملامح مخيف .. ) .
الملك : ( بابتسامته الخبيثة ) إذن .. قده إلى بغداد يا لهب ..
لهب : ( منحنيا انحناءة خفيفة لا تخفي قسوته ) سمعا وطاعة يا مولاي .. .
جابر : ( حائرا ) مولاي .. ولكني .. ( لهب يمسكه من ذراعه بعنف ويجره وراءه . جابر مشدوه لا يعرف ما يقول . يبقي في الديوان الملك وابنه ) .
الملك : أصبحت الريح مواتية للسير إلى بغداد يا هلاوون .
هلاوون : أنتظر هذه الريح منذ وقت طويل هل أجهز الجيش ؟ .
الملك : تبدو متلهفا للحرب ؟.
هلاوون : لن أكون قائدا جديرا بجيش الملك منكتم بن داوود ، قبل أن أدك صروح بغداد .
الملك : إذن .. جهز الجيش ، وأعد العدة . ستكون لك بغداد وسينعقد لك لواء القيادة ، إنما أريد أن يتم كل شيء .
بسرية . لا ينبغي أن تشيع أبدا أنباء حملتنا . سيكون هجومنا صاعقا وماغتا ، لا ينبىء عنه غبار ، ولا حامل أخبار . وبما أن لدينا من يفتح الأبواب ، فستفقد بغداد هيبتها ، وتنهار تحت حوافر خيولنا .
هلاوون : معنى هذا أنه ليس أمامنا طويل للوداع . .
الملك : مع الفجر ينبغي أن يزحف الجيش بكامل عدته ، وعتاده جيشنا في تعبئة دائمة ، وتكفي ساعات قليلة لاستكمال كل شيء . الإسراع يسهل علينا القضاء على الإمدادات في الطريق ، أو محاصرتها . وعندما تصبح بغداد قريبة ، ينبغي أن يستريح العسكر مختبئا في النهار ، ثم يسير في الليل . هذه هي الطريقة المثلى كي نضمن المباغتة .
هلاوون : هل يمكن حقا الاعتماد على الوزير ورجاله ؟.
الملك : سيكونون كالكلاب .. يلعقون أحذيتنا ، ويطلبون مرضاتنا . أسوار بغداد عاتية يا بني ، وإذا لم أضمن هدمها من الداخل ، لا أرمي بجيشنا إليها يهلك ، وهو يناطح حجارتها . .
هلاوون : لم يبق إذن إلا أن ننفخ بوق النفير .
الملك : يوم مشهود .. بغداد العظيمة ترتخي ، وتتمدد بكل بهائها أمام جيوش ملك العجم . حل قديم لمنكتم بن داود .
ولوالده من قبله . تعال يا بني ... سأنفخ البوق معك في هذا اليوم العظيم .
( يمسك الملك منكتم يد ابنه هلاوون ، ويخرجان معا .. ).
زبون 1 : وجابر .
زبون 3 : ماذا حدث له .
الحكواتي : ولم يكن جابر يعرف من هو هذا الرجل الذي يمسكه بقبضة من حديد ، ويجره وراءه غير عابئ بذهوله أو قلقله . ومن دهليز إلى دهليز ، حتى وصل به إلى غرفة بدت غريبة تمتلئ بالسياط والسلاسل والبلطات . وكان " لهب " نفسه تفوح منه رائحة شبيهة برائحة المقابر . وكلما سرق جابر نظره إلى وجهه المعدني ، أو تطلع في الغرفة حوله ، شعر قلبه يغوص في أعماقه . والصمت ثقيل يزيد الغم غما ، والخوف خوفا . وحاول جابر أن يبدد رهبة الجو ، فراح يتكلم آملا أن يجعل قسوة مرافقة تلين ، أو لعله يفهم ما يحدث له ...
( غرفة " لهب " ... حجرة ضيقة معتمة ، ذات لون قاتم صدئ . فيها سلاسل ، وبلطات وسياط ، وقاعدة خشبية ثقيلة ملطخة بألوان حمراء وسوداء . على أحد الجدران ثمة رأس معلق . وعلى حائط آخر علق قناع مخيف .. يجول جابر ببصره في أرجاء الغرفة ، فترتعش ملامحه رعبا ، ويبدأ بالتعرق . " لهب " صامت ، جامد ، وجهه معدن بارد .. ويبدو شديد اللامبالاة .. ).
جابر : ( يتكلم بلا ضباط .. الخوف والذهول يموجان في عينيه ، ويختلجان في صوته ) أعرف . أعرف ... صحيح أن بلادكم بعيدة . ولكن سمعت من بعض الرحالة والمسافرين كثيرا عن عاداتكم . لا تتركون مسافرا يغادر بلادكم الجميلة ، قبل أن تكرموه ، وتعرضوا له ما لديكم من تحف وأشياء . نادرة . والله أعتقد أني سمعت أيضا عن هذه الغرفة . لا شك أن لها قصة هائلة ، يشيب لها الشعر .. ( لهب لا يكثرت به .. فبعد أن يغلق باب الغرفة بالمزلاج ينصرف إلى تحضير بعض الأدوات ) تروي في بغداد قصص مشوقة وجميلة عن بلاد العجم يتحدث الناس أيضا بلعاب يسيل عن لذيذ مآكلكم ، وعاداتكم في الكرم ، وفي إجبار الزائر على تناول كل ما يقدم له ، حتى ولو صارت معدته كبطن الحامل .. والله كنت أتمنى لو أبقي هنا وقتا طويلا .. أتفرج على بلادكم ، وأتعرف على عاداتكم . لا بد أنها عادات لا مثيل لها . ( لهب يسن بهدوء بلطة كبيرة ) ولكن تنتظرني في بغداد أشياء لا تقبل التأجيل ( يحاول أن يضحك بألفة . فتأتي ضحكة صفراء ) إن امرأة يدوخ المرء بمجرد النظر إليها تتزين الآن في بغداد انتظار لعودتي . وأقول لك .. منذ اللحظة التي سلمت فيها الرسالة ، لم أعد مملوكا كسائر المماليك . لقد أجزل الوزير مكافآتي يهيئ لي مركزا مرموقا ، ويزوجني ، ويعطيني ثروة ( يربت على كتفه بتودد ، ويبتسم ) مكافأة مغرية لا يحلم بها رجل ( يهمس وكأنه يتقرب منه ) أنا الذي دبرت الحيلة للخروج بالرسالة من المدينة ، رغم شدة الحراسة على أبوابها . كم كان سروره عظيما لو ترى عناقه عندما أردت الرحيل . لقد عانقني كما أعانقك الآن . ( ويحاول أن يعانق " لهب " متظاهرا بالمرح ، لكن الآخر يدفعه بقسوة فيرميه جانبا ) يا الله .. ما أقوى ذراعك ولكن لا تبدو مرحا . ( ينهض لهب ، ويهيئ العينين ) أعرف .. كل إنسان وله طبعه . ولكن هل فهمت الآن سر عجلتي . إني لا أستطيع حتى أن أبيت ليلتي.
هنا ، إنها الآن تتزين وتنتظر تعرف المرأة تضجر بسرعة من الانتظار ( بعد أن ينتهي لهب من إعداد كل شيء يمسك جابر من ذراعه . وبقسوة يربط بالسلاسل ووثقهما خلف ظهره .. يمتقع جابر ، يتشتت بصره ، ويتلعثم لسانه بالكلمات ) ولكن .. ماذا تفعل ؟ بالله عليك ما هذا . لا شك أن مولاي منكتم يريد أن يمازحني . ( لهب يطرح جابر أرضا .. يجبره على الركوع ، ويوثق رجليه أيضا . جابر يصرخ كما لو أنه يحشرج ) يا الله .. ماذا تفعل . أنا الآن رجل رفيع المقام ، ولى زوجة وثروة . بلغت الرسالة على أحسن وجه ، وسأعود لأنال الكافأة . مكافأتي .. الرحمة .. الرحمة .
( يختفي الصوت ، وإن كنا لا نزال نرى جحوظ عيني جابر .. وحركات فمه وهو يصرخ ، ويستغيث يحاول الإفلات... ولكن الأوثقة محكمة .. يستمر المشهد ويتم إيمائيا على صوت الحكواتي ... ) .
الحكواتي : ولم يعرف جابر أن هذا الرجل الذي ينادونه " لهب " هو بالذت سياف ملك بلاد العجم السيافون يتصفون دائما بالدقة . لا يهملون شيئا ، ولا يحبون الكلام . وما إن أصبحت كل الأدوات جاهزة ، حتى أمسك لهب بيده المعدنية رأس المملوك جابر . وضعه على القاعدة الملطخة بالدم اليابس . وبضربه من بلطته المسنونة فصل رأسه عن جسده . ( يتم ذلك إيمائيا ، وأمام المتفرجين . ينتشر اللغط بين الزبائن .. ثم ترتفع الاحتجاجات ) .
زبون 2 : ما هذا ؟.
زبون 3 : يقطعون رأسه بعد كل ما فعل.
زبون 2 : لا يجوز .
زبون 1 :ما هذا الجزاء .
زبون 4 : قلت لكم ، يمكن أن تنتظره أيضا أسفل المراتب .
زبون 2 : إننا لا نقبل .
زبون 1 : نهاية غير عادلة .
زبون 3 : ينبغي أن ينال ما تستحقه فطتنه .
الحكواتي : ( يعلو صوته ، ويحاول السيطرة على الضوضاء ) وبعد أن تدحرج رأس المملوك جابر ، حمله السياف " لهب " . والدم يقطر منه . وتأمله طويلا ثم انفجر يقهقه .
( السياف يتقدم من الزبائن ، حاملا الرأس المقطوع .. ينظر إليهم ويقهقه ) .
زبون 2 : أعوذ بالله من هذه الخلقة .
زبون 1 : هيئة عزرائيل .
زبون 3 : قطع الله يدك .
السياف : ( يتوقف عن القهقهة . يتفرس فيهم بعينيه الحجريتين ، فيفرض عليهم الصمت والرهبة ، يضع الرأس بين راحتيه ويقربه منهم ) كان موته تحت فروة رأسه ، ولم يدر قطع البراري يحمل قدره على رأسه ، ولم يدر . كان يحلم بالعودة رجلا عالي الرتبة ، تنتظره زوجة وثروة .
الحكواتي : ولم يسأل السؤال .
( تنفجر قهقة السياف كقهقة عفريت .. ثم يرمي الرأس للحكواتي ، فيلتقطه ويضعه بين يديه .. بينما يخرج السياف حاملا معه الديكور ) .
زبون 1 : أعوذ بالله ، هات شاي يا أبو محمد .
زبون 3 : وأنا أعطني فنجانا من القهوة .
الحكواتي : ( ينظر إلى الرأس ويقرأ ما هو مخطوط عليه ) يقول وزير بغداد في رسالته : " من الوزير محمد العبدلي إلى بين أيادي الملك منكتم .. نعلمكم أن الوقت حان , وفتح بغداد صار بالإمكان . فجهزوا جيوشكم حال وصول الرسالة إليكم وليكن هجومكم سرا ، وتحت ستر من الكتمان حتى تتم . المفاجأة بفتح بغداد . وإن وجدتم في الطريق عساكر تمشي إلينا ، فاقضوا عليها لأنها إمدادت للخليفة . ونحن هنا نتكفل بالعون وفتح الأبواب " ثم يضيف الوزير حاشية صغيرة .. ( وكي يظل الأمر سرا بيننا اقتل حامل الرسالة من غير إطالة ) ( لحظة ويكرر الحكواتي ) وكي يظل الأمر سرا بينا اقتل حامل الرسالة من غير إطالة . .
زبون 3 : الغدار اللئيم .
زبون 1 : هو الوزير إذن ..
زبون 2 : لعنة الله عليه . يغدر ولا يحفظ عهدا .
زبون 3 : بالله تكدر مزاجي .
الحكواتي : وكانت جيوش العجم تزحف كعاصفة هوجاء نحو بغداد . وفي طريقها خربت كل ما هو قائم . وكان الوزير يوالي الاتصال بقواده ، ويرتب معهم خططه وفجر يوم استفاق الناس في بغداد على الهول .. جيوش تهادم المدينة ، وطبول الحرب تدوي ، وهو لا يعرفون ما يجري . يهرولون مذعورين ، ويطلبون العون من العلى القدير ، وانفتحت بعض الأبواب واقتحمت الجيوش الأسواق . وأهل بغداد لا يعرفون ما يجري .. وعم البتار ، وطلع الغبار ، وقصرت الأعمار ، وسالت الدماء كالأنهار , وحسب الناس أنها القيامة . الجثث تتكدس ، والأعراض تهتك ، والنار تشتعل ، والبيوت تنهدم .. وارتفع الأنين من بغداد كأنه سحابة من الغبار أو الدخان .
( تتم رواية هذا المقطع ، على صوت خبب الخيول ، وصليل السيوف ، وصيحات الرعب بين حين وآخر يندفع بعض الذين نعرفهم ممن مثلوا عامة بغداد أو سواهم . الرجل الأول ، الثاني ، الثالث ، الرابع المرأة الأولى ، الثانية ، ياسر ، أحد الحراس .. كلهم يدخلون وهم يصرخون ، ويمثلون إيمائيا تلقي الطعنات ، أو هتك العرض ، المرأة الثانية تمثل عملية الهتك ، وتسقط ممزقة الثياب مفتوحة الساقين .. يتكومون بعضهم فوق بعض أمام الزبائن ، جثثا وأجسادا مهتوكة يغادر الحكواتي وهو يروي هذه المقاطع كرسيه ، ويجول بين الأجساد التي تتكدس ) .
الحكواتي : كان يوما مروعا لم تشهد بغداد مثله . عم الحزن ، وانتشر الموت كالهواء . لقي الكثيرون حتفهم دون أن يعلموا .
ما يجري حولهم ، وأصبحت الشوارع تسدها الجثث ، والخرائب ، وبقايا الجرحى . ذلك اليوم ... هبط الليل على بغداد مبكرا ومثقلا بالويل والأهوال .. وانتشر الظلام عميقا ثقيلا كأنه نهاية الزمان .
( يعم الصمت فترة مديدة ، ثم ينهض الرجل الرابع من بين القتلى ، ويقف قرب الحكواتي . بعد قليل تظهر زمرد في الطرف الآخر ، فيناولها الحكواتي رأس المملوك جابر .. تحتضنه ، وتقبله . وبحركات بطيئة كالطقوس ، يتقدم الثلاثة من الزبائن ، تتوسطهم زمرد التي تحمل الرأس بين يديها . ووراءهم كوم الجثث ... ) .
الجميع : ( معا إلى الزبائن والجمهور ).
من دليل بغداد العميق نحدثكم . من ليل الويل والموت والجثث نحدثكم . تقولون .. فخار يكسر بعضه .. ومن يتزوج أمنا نناديه عمنا .. لا أحد يستطيع أن يمنعكم من أن تقولوا ذلك . لكل واحد رأي وتقولون .. هذا رأينا لا أحد يستطيع أن يمنعكم من أن تقولوا هذا رأينا . لكن إذا التفتم يوما ، ووجدتم أنفسكم غرباء في بيوتكم . .
الرجل الرابع : إذا عضكم الجوع ووجدتم أنفسكم بلا بيوت . .
زمرد : إذا تدحرجت الرؤوس . واستقبلكم الموت على عتبة صبح كئيب .
المجموعة : إذا هبط عليكم ليل ثقيل وملئ بالويل لا تنسوا أنكم قلتم يوما . فخار يكسر بعضه .. ومن يتزوج أمنا نناديه عمنا من ليل بغداد العميق نحدثكم . من ليل الويل والموت والجثث نحدثكم .
( ينهض الممثلون المكدسون على الأرض ، ثم ينسحب الجميع بعد لحظات من الصمت . يأخذ العم مونس كتابه ، ويتأهب للخروج .. ) .
الحكواتي : ( وهو ينصرف ) كانت تلك حكايتنا لهذه السهرة .. وغدا نلقاكم بخير مع حكاية أخرى .
زبون 1 : ما هذه الحكاية ؟.
زبون 3 : إنها قاتمة كحكاية البارحة .
زبون 2 : إذا كانت حكاياتك لن تتغير يا عم مونس ، سنبقي في بيوتنا .
زبون 3 : يأتي الواحد هنا ليفرج كربه ، ويسري عن نفسه ، لا ليكتئب ويحزن ..
زبون 2 : إذا لم تبدأ سيرة الظاهر غدا فلن أسهر بعد الآن في هذا المقهى .
زبون 3 : كلنا مثلك ..
( للحكواتي وهو يخرج ) ماذا قلت يا عم مونس .. هل تبدأها غدا ؟.
الحكواتي : لا أدري ...
ربما .. الأمر يتعلق بكم .
( يخرج .. ويتبادل الزبائن النظر بحيرة وكآبة .. ) .
زبون 1 : يتعلق بنا . .
زبون 3 : أما غريب هذا العم مونس .
زبون 1 : غدا .. لن نقبل حكاية غير حكاية الظاهر .
زبون 2 : غدا يفرجها الله هل نمضى إلى النوم ؟.
الزبائن : ( بأصوات متفاوته ).
- أي والله .
حان الوقت ...
إلى النوم .
( ينسحب الزبائن واحدا بعد الآخر ، وهم يحيون " أبو محمد " لا يبقي سواه . يرتب الطاولات قليلا ... ثم يقوم بحركة إغلاق المقهى ... ) .
الخادم : ( وهو يغلق المقهى للجمهور ) أنتم أيضا .. تصبحون على خير وإلى الغد .
ستار 1970.


 (وأرجو لكم قراءة ممتعة ومفيدة، وأرجو أنْ تفهموا مغزى هذه المسرحيّة الجريئة، وأرجو أنْ تقرؤوا هذه المسرحيّة بعين الحاضر، وليس بعين الماضي، إنّها مسرحيّة مقتبسة من الماضي لمخاطبة الحاضر)
عبد الوهاب الشتيوي