mardi 12 octobre 2010

الموشحات الأندلسيّة

الأستاذ عبد الوهاب الشتيوي
معهد الحبيب ثامر ـ صفاقس، الجمهورية التونسيّة

لقد استطاع أهل الأندلس رغم تقليدهم للمشارقة في أدبهم من حيث أساليبه و أغراضه و معانيه أن يحقّقوا شيئا خاصّا بهم يبقى مذكورا على طول الأزمان و يشهد لهم على قدراتهم الإبداعيّة و الإبتكاريّة أيضا ، لقد استطاعوا أب يبتكروا لونا أدبيّا خاصّا بهم يعترف كلّ المؤرّخين أنّهم السبّاقون لمعرفته، ونقصد بذلك " فنّ الموشّحات " و سنلقي بعض الأضواء عليه لنرى أسباب نشأته و مفهومه و خصائصه، ثمّ نرى حظّ ابن زيدون منه بما أنّه موضوع دراستنا الأصليّ .
I ـ نشأة فنّ الموشّح :
إنّنا لو حاولنا أن نغوص بحثًا في هذه المسألة لما خرجنا منها فائزين بجواب كاف ضاف، لذلك سنحاول الاختزال و الإشارة إلى المهمّ لأنّ النقّاد لم يتفقوا حول الأسباب الرئيسيّة و الحقيقيّة لنشأة فنّ الموشّح.
يرى الدّارسون أنّ هناك عوامل كثيرة ساهمت في النّشأة يعود بعضها إلى ما عاشه الشعراء في المشرق و أحسّوا به و لم يستطيعوا انجازه انجازًا تامًّا، ونقصد بذلك أنّهم أصبحوا متضايقين من الأوزان العروضيّة الخليليّة التّقليديّة و قيود القافية و وجدوها تقضي على آفاقهم الإبداعيّة و تحرمهم من لذّة الإبتكار و الاكتشاف، فـ " ـالأمر يتعلّق فعلا ببلوغ الشّعر العربيّ في مشرقه و مغربه حالة من الإستقرار في بنيته لم يعد قابلا معها لأيّ تطوير . و قد حجّر النّقّاد و الرّوّاة أشكاله و حتّى أغراضه و نصّبوا القصيد الجاهلي نموذجًا يحتذى لا يمكن الحياد عنه ". ( محمود طرشونة ، الكتاب المدرسي ، ص 198 ـ س 1997 ) . فأخذ بعضهم ( أبو نواس و بشّار و أبو العتاهية و مسلم بن الوليد خاصّة ) في كسر القاعدة الشّعريّة بإبتكار بعض الأوزان يتحرّرون فيها من تلك القيود الملزمة و ظهر الشّعر المسمّط و المزدوج والمثلّث والمربّع والمخمّس والمزركش ، من ذلك قول أحدهم :
موسى المطرْ غيث بكرْ ثمّ انهمرْ ألوى المررْ
كم اعتسرْ ثمّ ايتسرْ و كم قدرْ ثمّ غفرْ
فتابع الأندلسيّون هذه الثورة التجديديّة من ذلك أنّ ابن عبد ربّه صاحب كتاب " العقد الفريد " أوجد دوائر عروضيّة جديدة تعطي أوزانا جديدة لم يتطرّق إليها الخليل بن أحمد صارت غرام أصحاب الأدب في ذلك العصر و صاروا يجرّبون حظوظهم في نظم ما لم يكن متوفّرا من قبل ، فيقول ابن خلدون في " المقدّمة ": " فلمّا كثر الشّعر في قطرهم و تهّذبت مناحيه و فنونه ، و بلغ فيه التنميق الغاية ، استحدث المتأخّرون منهم فنًّا منه سمّوه بالموشّح " . ( عن طرشونة ، م ، ن ). وأنشؤوا فنّ الموشّح بمساهمة عامل آخر قويّ هو تطوّر الغناء في الأندلس لا سيّما لمّا قدم إليها " زرياب " مبتكر الوتر الرّابع لآلة العود ، و قد اعطى هذا التطوّر المغنّين أكثر حريّة في التعامل مع الأوزان و مع القصائد المغنّاة و صاروا يضيفون إليها بعض المقاطع العامّية خاصّة حتّى يسهل غناؤها و يخفّ وزنها ، و هذا الرّأي يؤكّده احسان عبّاس فيقول : " و الحقيقة التي تبقى ثابتة هي صلة المشّح بالغناء لأنّ الغناء هو الذي سهّل على الوشّاح ركوب الأعاريض المهملة ، إذ الغناء هو الذي يحدث التّناسب المفقود بالمدّ و القصر و الزّيادة والخطف ، و قد حدّثنا ابن سناء الملك نفسه أنّ بعض الموشّحات لا تتمّ نغمتها إلاّ بزيادة نغميّة فيها ". (225 ) . كما يؤكّده جودت الرّكابي فيقول : " ممّا لاشكّ فيه أنّ لحياة اللّهو و المجون و لإنتشار السّمر و الغناء في الأندلس أثراً في اختراع الموشّح و ظهوره في تلك الأرض ذات الطّبيعة الوارفة الظّلال ، فالشعر الخفيف كما نعلم مادّة الغناء ، فإذا كان انتشار الغناء في الأندلس قد استدعى ظهور الموشّح ، فإنّه أيضا قد حدّد له وزنه و حرّره من قيود الشّعر التقليدي و قوالب الأوزان المعروفة و عبوديّة القافية الوحيدة . فالنّهضة الغنائيّة إذن كانت من دواعي ظهور هذا الفنّ " . ( ص 258 ) . و قد أثبتت دراسات الصّلة القويّة بين الموشّح و ضرب من الغناء ظهر في جنوب فرنسا القريب من الأندلس يسمّى " التّروبادور " حيث أنّ هناك تشابهًا في الأغراض ( الغزل و الطّبيعة ) والأوزان و تعدّد القوافي و ترتيب أجزاء القصيدة ، و نجد في الموشّح الألفاظ العاميّة لا سيّما في الخرجة و هو ما يقوّي رأي القائلين بأنّه نشأ تأثّرا بتطوّر الغناء .
و لكنّ د / شوقي ضيف رفض هذا الرّأي و بيّن أنّ الموشّحات كانت تطويرًا لمحاولات الشّعراء المشارقة تطوير الشّعر إذ اخترعوا التنويع في القوافي و الجمع بين البحور ، و هذا الرأي فيه تعصّب لأنّ ضيف أنكر في كتابه أيّ فضل للأندلسيّين و جعل فنونهم و آدابهم محاكاة للمشرق ، فيقول : " و لعلّ في هذا ما يشير إلى في صراحة إلى أنّ الموشّحات فنّ أندلسيّ محليّ و إن كنّا لا نؤمن بأنّها نشأت من المزاوجة بين الشّعر العربي و ضروب من الأغاني الشّعبيّة الأندلسيّة [..] إنّما نؤمن بأنّها تطوّر تمّ هناك للمسمّطات و المخمّسات التي عرفت منذ العصر العبّاسي الأوّل " . ( ص 452 ) .
و يؤكّد د / محمود طرشونة على أهميّة العامل الاجتماعي إذ أنّ الأندلس بلد مفتوح على كلّ الأعراق متعدّد الأجناس ، الثقافة فيه قابلة للتنّوع و استيعاب الآخر و التفتّح عليه ، يؤثّر هذا في ذاك و يتأثّر به ، فظهر فنّ يعبّر عن هذا الإطار الاجتماعي المخصوص الذي يسعى فيه أهله إلى اثبات تميّزهم و تأكيد شخصيّتهم الحضاريّة الفريدة ، خاصّة إذا ما أضفنا العاملين البيئي و الحضاري اللّذين يقول عنهما طرشونة:" فالرياض الزاهية ، و البساتين المثمرة ، و اعتدال الجوّ ، و كثرة الجداول و الأنهار و الأشجار والإخضرار ، كلّها تمثّل إطارًا ملائمًا للإبتكار . و في مثل هذا الإطار كانت تعقد مجالس الطّرب و الأنس التي ساهمت بدورها في ابتداع فنّ التّوشيح لما لهذا الفنّ من صلة بالغناء ". ( م ، س ، ص 201 ـ 202 ) .
و تأكيدًا للبعد الاجتماعي و الحضاري يضيف احسان عبّاس سببًا آخر يراه وجيهًا لبيان أسباب نشأة الموشّح وهو أنّ بعضًا من الشّعراء المدّاحين أراد أن يجدّد في الشّعر التكسّبي و يتميّز عن غيره من شعراء المدح و يقدّم للممدوح فنًّا قوليًّا جديدًا يسحر به الألباب و به يسيطر على الآذان .
و بناءً عليه يكون الموشّح حسب احسان عبّاس : " ثورة على طبيعة القصيدة فهو حركة تجديديّة ، وهو أيضًا رجعة إلى الغنائيّة من وجهة أخرى ، أي هو زخرف حضاريّ قد ينطوي على كلّ مقوّمات السّطحيّة الجذّابة و التّرف المسترخي " . ( ص 217 ) .
II ـ مبدع فنّ الموشّح :
لئن أجمع أغلب الدّارسين ـ إلاّ من شذّ منهم ـ على أنّ فنّ الوشّح أندلسيّ أصيل نشأ بها و لا علاقة للمشارقة به ، فإنّهم اختلفوا في تحديد اسم مخترعه الأوّل ، و نجد في الصّدد روايتين مختلفتين تحاولان البتّ في المسألة ، و ترد الرّواية الأولى في ذخيرة ابن بسّام و تقول : " و أوّل من صنع أوزان هذه الموشّحات بأفقنا و اختراع طريقتها ـ فيما بلغني ـ محمّد بن محمود ( حمّود ) القبْري الضّرير " . ( ق 1 ، م 2 ، ص 1 ) ، و ترد الرّواية الثّانية في مقدّمة ابن خلدون و تقول : " و كان المخترع لها بجزيرة الأندلس مقدّم بن معافى القبْري من شعراء الأمير عبد الله بن محمّد المرواني و أخذ عته أحمد بن عبد ربّه صاحب كتاب العقد و لم يظهر لهما مع المتأخّرين ذكر و كسدت موشّحاتهما فكان أوّل من برع في هذا الشّأن عبادة القزّاز شاعر المعتصم بن صمادح صاحب المريّة .. و زعموا أنّه لم يسبقه وشّاح من معاصرين الذين كانوا في زمن الطّوائف " .( عن الرّكابي ، ص 287 ـ 288 ) .و قد أشار الرّكابي أنّ ابن خلدون قد أخطأ حين ذكر عبادة القزّاز ، و الصّواب هو عبادة بن ماء السّماء ، لكنّ احسان عبّاس يثبته بقوله : " وقد قدّم المؤرّخون عبادة القزّاز على سائر الوشّاحين في عصر الطّوائف و كان عبادة هذا شاعر المعتصم ابن صمادح ، و روي عن أبي بكر ابن زهر الوشّاح أنّه قال : كلّ الوشّاحين عيال على عبادة القزّاز ". ( ص 232 ) ، و السّبب بالنسبة إليه أنّ موشّحات ابن ماء السّماء لم يصلنا منها إلاّ واحدة مثبتة لدى المؤرّخين ، و بذلك يكون فضل التّطوير بالفعل لعبادة القزّاز .
إذن فهناك ذكر لشخصين يرجع فضل ابتكار الموشّح لهما ، و هما :محمّد بن محمود القبْري ، و مقدّم بن معافى القبْري و قد ظنّ بعض الدّارسين لفترة من الزّمن أنّهما اسمان لمسمّى واحد لكنّهم تراجعوا عن هذا الظنّ بعد أن ظهرت دراسات تثبث أنّهما فعلاً شاعران أندلسيّان معروفان في عصرهما . و لكن مع ذلك لا يحلّ اشكال مبتكر الموشّحات بإعتبار أنّه لا يمكن لشخص واحد أن يخترع فنًّا جديدًا بمفرده وبطريقة فجئيّة ، و الأقرب إلى المنطق و الحقيقة التّاريخيّة أنّ الموشّح ظهر في البداية محاولات عاديّة قام بها بعض الشّعراء و المغنّنين للخروج من دائرة القديم و تقديم الجديد ، ثمّ بدأت تتركّز شيئا فشيئا حين انتبه النّاس إلى جماليّتها و اعترفوا بها و انتهى عهد رفضها ، أي أنّ ما وصلنا من الموشّحات هو النموذج الأرقى لها و لا يمكن لأحد أن يبتكر فنًّا ما و يكون في صورته الرّاقية ، فكلّ فنّ يمرّ بمرحلة النشأة ثمّ مرحلة التّأسيس لنصل إلى مرحلة التّركيز .
و أهمّ الوشّاحين : أبو بكر عبادة بن ماء السّماء ، و عبادة القزّاز ، و و ابن اللُّبانة ، و الأعمى التُّطيلي ، و ابن بقيّ ، و ابن باجه ، و أبو بكر بن زهر ، و ابن سهل ، و لسان الدّين بن الخطيب .. (انظر كتاب الرّكابي ص 290 و عبّاس ص 233 ) .
III ـ تعريف الموشّح :
كما وجدت الإختلافات حول نشأة الموشّح و اسم مخترعه الأوّل ، و جدت اختلافات حول تعريفه، فرأى بعضهم أنّه مشتقّ من الوشاح و هو وشاح المرأة المزيّن المزركش المرصّع بالجوهر و اللّؤلؤ و الذي تقول عنه المعاجم : " كرسان لؤلؤ و جوهر منظومان مخالف بينهما معطوف أحدهما على الآخر " . ( عن عبّاس ، ص 220 ) ، و يعرّفه ابن سناء الملك ( شاعر مصري 550 هـ ـ 608 هـ ) مؤلّف أوّل كتاب متكامل عن فنّ الموشّحات و هو " دار الطّراز " ، فيقول : " الموشّح كلام منظوم على وزن مخصوص ، و هو يتألّف في الأكثر من من ستّة أقفال و خمسة أبيات و يقال له التّام ، و في الأقلّ من خمسة أقفال و خمسة أبيات و يقال له الأقرع ، فالتّام ما ابتدئ فيه بالأقفال ، و الأقرع ما ابتدئ فيه بالأبيات " . ( عن الرّكاب ، ص 293 ) . فهو إذن قريب جدًّا من الشّعر لأنّه فنّ ايقاعيّ يحتوي أوزانًا تتكوّن من بحور عروضيّة ، و قوافي ، و يفترق عنه من حيث أنّ فيه تنوّعًا في الأوزان و القوافي و هيكل النصّ وتوزيع الكلام على الورق ، و هو كما أراد له الأندلسيّون يشدّ المشرق العربي إلى مغربه و يتجلّى حضور المشرق فيه بما أنّه فنّ شعريّ ، و يتجلّى حضور المغرب فيه بما أنّه فنّ ابتكر هناك .
IV ـ عناصر الموشّح :
يتكوّن الموشّح في الأصل من عنصرين يسمّى الأوّل " القفل " و يسمّى الثّاني " الغصن " و يسمّى هذا الموشّح تامًّا ، أمّا إذا بدأ مباشرةً بالعنصر الثّاني فإنّه يسمّى " أقرع" ، و في الموشّح التّام نجد ستّة أقفال تتوسّطها خمسة أغصان ، و قد يزيد الوشّاح أو ينقص من هذا العدد ، و يسمّى جمع القفل بالغصن " دورًا " أو " بيتًا " ممّا يعطينا خمسة أدوار ( أو أبيات ) في الموشّح التّام و قفلا أخير يسمّى " الخرجة " ، و هي آخر ما يبقى في ذهن السّامع فإمّا أن تترك انطباعًا جيّدًا أو أن تسقط قيمة صاحبها ، مثل الخاتمة في الشّعر ، و عنها يقول : " و الخرجة هي ابراز الموشّح و ملحه و سكّره ، و مسكه و عنبره ، و هي العاقبة وينبغي أن تكون حميدةً " .( عن عبّاس ، ص 236 ) ، بل و يشترط أن يضبطها الوشّاح قبل قول الموشّح والبحث في ألفاظه و أوزانه ، و يجب أن تكون عامّيّةً ظريفة تترسّخ في الأذهان ، أمّا إذا كانت فصيحة فإنّها تخرج بالقول من دائرة الموشّح إلاّ إذا كان في المدح فالفصيح منه مقبول و يُذكر فيها اسم الممدوح .
و نورد مثالاً لأبي بكر محمّد بن زهر الأشبيلي :
سلّمِ الأمر للقضا فهو للنّفس أنفعُ
و اغتنمْ حين أقبلا
وجه بدرٍ تهلَّلا
لا تقلْ بالهمومِ لا
كلّ ما فات و انقضى ليس بالحزنِ يرجعُ
و اصطبحْ بابنة الكرومِ
من يديْ شادنٍ رخيمِ
حين يفترُّ عن نظيمِ
فيه برقٌ قد أومضا و رحيق مشعشعُ
V ـ أوزان الموشّح :
تقسّم أوزان الموشّحات إلى قسمين اثنين :
أ ـ قسم يرد على الأوزان الشّعريّة العروضيّة المعروفة ، و لكنّ الوشّاحين يستنقصون قيمته و يرون أصحابه بعيدين عن الإجادة ، منصرفين إلىالتّقليد.
ب ـ قسم هو ما خالف الأوزان التقليديّة المعروفة للشّعر العربي ، و ورد على أوزان مستحدثة لا قواعدلها و لا ضوابط ، أي أنّ الوشّاح يستحدث وزنه أثناء الإنشاد و الغناء ، و عنه يقول ابن سناء الملك : " و القسم الثّاني من الموشّحات هو ما لا مدخل لشيء منه من أوزان العرب . و هذا القسم منها هو الكثير ، و الجمّ الغفير [..] و كنت أردت أن أقيم لها عروضًا يكون دفترًا لحسابها ، و ميزانًا لأوتادها و أسبابها فعزّ ذلك و أوعز [..] و ما لها عروض إلاّ التلحين " . ( عن الرّكابي ، ص 301 ) .
و لم يرفض الدّارسون هذه الحريّة الإيقاعيّة بل برّروها انطلاقًا من أنّ الموشّح غناء و موسيقى يخضعان أوّلا لقانون الحريّة و التجديد ، فيقول جودت الرّكابي : " يتبيّن ممّا تقدّم أنّ العرب إنّما اخترعوا الموشّحات من أجل الغناء ، فيجدر بنا إذن ألاّ نطلب من الشّاعر الوشّاح أن يتقيّد بوزن قديم معروف تقيّدًا شديدًا . إنّ الذي يميّز هذا الفنّ و يكسبه جمالاً ليس العروض المقنّن بل حريّة الوزن " . ( ص 302 ) .
و يرى جودت الرّكابي أنّ العرب لم يبتكروا للموشّح أوزانًا مثل أوزان الشّعر المعروفة بالبحور والتفعيلات لا لعجزهم عن صنع ذلك ، و إنّما لتمكين المبدعين من الحريّة الإبداعيّة ، و قد لا نوافق على هذا الرأي لأنّ الشّعر أيضًا فنّ يقوم على الحريّة و الشّاعر يطلب الحريّة بإلحاح حتّى يبدع كما يشاء و مع ذلك وضعوا له قوانين الزاميّة و شروطًا قاسية ضاق بها الشّعراء ذرعًا فثاروا عليها في مختلف عصور الإبداع .
VI ـ أغراض الموشّح :
وردت الموشّحات الأندلسيّة في أغراض الشّعر المتداولة مثل الغزل و المدح و الفخر و الهجاء و الرّثاء لأنّها في الحقيقة فنّ قوليّ قريب جدًّا من الشّعر و قد أخذت منه بعض خصائصه في الوقت نفسه الذي افترقت فيه عنه ، و قد احتوت الكتب التي اعتنت بالموشّحات و على رأسها كتاب " دار الطّراز " لإبن سناء الملك أمثلة عديدة لتطرّقها لكلّ هذه الأغراض ، و عن ذلك يقول هذا الكاتب : " الموشّحات يُعمل فيها ما يعمل في أنواع الشّعر من الغزل و المدح و الرّثاء و الهجو و المجون و الزّهد " . ( عن الرّكابي ، ص 302 ) .و لكن بما أنّ الموشّحات قد تأثّرت في نشأتها بفنّ الغناء ـ كما بيّنّا سابقًا ـ و ابتكرت لفنّ الغناء و صارت فنًّا يلقى في مجالس الطّرب و اللّهو و المجون ، فإنّنا نجد أنّ أغلب أغراضها كانت تدور في هذا الفلك مثل الغزل و وصف مجالس الشّراب و اللّهو و الغناء و الرّقص و وصف القصور و الطّبيعة الأندلسيّة الغنّاء ، لا سيّما و أنّ قصور الأمراء كانت ملتقى هذه المجالس التي تفشّى وجودها ، مثل قول ابن زهر :
روض أظلّه دوحٌ عليه أنيقْ مـورق الأفـنـان
و الماء يجري و عائمٌ و غريقْ من جنى الرّيحان
و ربّما وصفت مواضيع الموشّحات بالتّافهة لأنّها أكثرت من التعلّق بهذه الأغراض و المعاني و ابتعدت عن الجديّة و الإلتزام و الإتّزان التي عرف بها الشّعر العربي القديم ، و لعلّ الأندلسييّن وجدوا فيها ـ وهي بهذا الشّكل ـ دواءً لنكباتهم السّياسيّة و الإجتماعيّة ، و مثّلت لهم عزاءً ينسيهم ما رزئوا به من محن ومصائب .
VII ـ الموشّح في ديوان ابن زيدون :
لقد وجدنا خلافًا في هذه المسألة بين الدّارسين ، حيث أنّ بعضهم اعتبر أنّ ابن زيدون طرق باب هذا الفنّ و أنتج فيه نصّين اثنين شهيرين مثبتين في الدّيوان ، و أنكر عليه بعضهم ذلك معتبرًا أنّ هذين النصّين ما هما إلاّ من الشّعر المسمّط الشّبيه بالموشّحات و الذي يدّعي بعض الدّارسين أنّ فنّ التّوشيح نشأ نتيجة تطوير هذا النّوع من الشّعر ، و منهم شوقي ضيف الذي يقول : " إنّما نؤمن بأنّها ( أي الموشّحات ) تطوّر تمّ هناك للمسمّطات و المخمّسات التي عرفت منذ العصر العبّاسي الأوّل " .( ص 452 ) ، و أثبت كامل الكيلاني هذين النّصّين في باب التّوشيح إذ كتب في رأس الصّفحة عبارة " موشّح أقرع " ، و نرى أنّ اسقاط هذين النصّين من فنّ التّوشيح فيه بعض التّعسّف و الظّلم لأنّنا نجد فيهما ما يتوفّر في الموشّح عادةً من عناصر و هي :
أ ـ الأقفال .
ب ـ الأغصان .
ج ـ الأدوار أو الأبيات .
د ـ الخرجة .
و موشّحا ابن زيدون الإثنان من نوع الأقرع لأنّه بدأهما بالأغصان عوض الأقفال ، و قد تنوّعت الخصائص الإيقاعيّة التي تبثت بالنسبة إلينا انتماءه إلى فنّ التّوشيح منها مثلا في نصّ " سقى الغيث أطلال الأحبّة " :
أ ـ المحافظة على عدد أسطر الغصن و هو 3 أسطر .
ب ـ المحافظة على عناصر الدّور و هي قفل و غصن ، رغم أنّ ابن زيدون يبدأ بالغصن عوض القفل ، فيكون موشّحه كما أشرنا إلى ذلك سابقًا من نوع " الأقرع " .
ج ـ تنوّع قوافي الأغصان إذ نجد : الميم ( المفتوحة ) ، و العين ، و الرّاء ، و الميم ( المكسورة ) ، والحاء ، و الجيم ، و الفاء ، و الهاء المكسورة ، و الهاء المضمومة .
د ـ ختم النصّ بالخرجة .
هـ ـ الإلتزام بالغرض الرّئيسيّ للموشّحات و هو الغزل و الحنين إلى حبيب الماضي و وصف الطبيعة و مجالس الخمر و اللّهو .
و قد أثبت ابن زيدون حريّته في موشّحيه حيث أنّه التزم ببحر واحد و هو الطّويل ( في الموشّحين ) على عكس الوشّاحين المشهورين الذين يفضّلون تنويع البحور في الموشّح الواحد ، كما لم يلتزم بعدد الأدوار النّموذجي و هو خمسة أدوار بل تجاوز هذا العدد بكثير ، فبلغ عشرة أدوار في الموّشح الأوّل و بلغ العشرين دورًا في الموشّح الثّاني " تنشّق من عرف الصّبا ما تنشّقا " .
أمّا بالنسبة إلى المعاني فإنّ ابن زيدون ركّز في هذين الموشّحين على حنينه إلى طرفين هامّين جدًّا في حياته رحل عنهما غصبًا و طرد من حضرتهما ظلمًا ، وظلّ على امتداد فترة غيابه عنهما يذكرهما بقلب كلّه شوق و أسى و عين تدمع لذكرهما و نفس تطارد خيالهما في الأحلام إنّهما الحبيبة ـ ربّما ولاّدة و ربّما أيّة حبيبة كانت و قد لا تكون واقعيّة ـ و وطنه قرطبة التي لم تستطع لا أشبيليّة التي وجد فيها الحظوة الكبيرة ، و لا بطليوس أن تنسياه حبّها العميق


* ملاحظة:
هذه الدّراسة من جزء من كتاب نشرناه بصفاقس سنة 2005 بعنوان "غزل ابن زيدون، عمق الأداء وجودة البناء".

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire